البرامج التلفزيونية الجزائرية والتونسية في ظل تسيد مؤثري المنصات الاجتماعية

Les programmes des télévisions algériennes et tunisiennes et la prédominance des « influenceurs »

Algerian and Tunisian Television Programmes and The Predominance of « Influencers

هدير محمد

p. 1-18

Citer cet article

Référence papier

هدير محمد, « البرامج التلفزيونية الجزائرية والتونسية في ظل تسيد مؤثري المنصات الاجتماعية », Aleph, 1-18.

Référence électronique

هدير محمد, « البرامج التلفزيونية الجزائرية والتونسية في ظل تسيد مؤثري المنصات الاجتماعية », Aleph [En ligne], mis en ligne le 19 juin 2023, consulté le 10 mai 2024. URL : https://aleph.edinum.org/9213

تحيل حالة الرداءة التي تسم العديد من البرامج التلفزيونية لما تبثه من برامج «الترفيه» باستعمال كل الطرق والوسائل المتاحة بهدف استقطاب أكبر قدر ممكن من المشاهدين قصد تحويلهم إلى سلع لصالح المعلنين الذين يبحثون عن أهداف لإشهارهم واستهلاك بضائعهم. وتتجسد رداءة برامج التلفزيون بالأساس في برامج تلفزيون الواقع واستعراض الحياة الشخصية والبرامج الحوارية. ومن هذا المنظور ليست الرداءة التلفزيونية ابتكارا محليا فهي في كثير من الأحيان منتجات مستوردة تمت قولبتها. وفي المقابل لا تمثل هذه البرامج في السياقات التي ابتكرت فيها سوى جزءا من المشهد التلفزيوني وبالتالي فهي ليست مشكلا في ذاتها لأنها ليست استثناء، ولأن الناس أحرار فيما يشاهدون، فالمطالبة بإلغائها يعد إخضاعا للتلفزيون لأحكام أخلاقية. بيد أن المشكل يكمن في هيمنة هذا النوع من البرامج وبشكل عام في تنميط المشهد التلفزيوني مع تسيد ما يسمى بمؤثري المنصات الاجتماعية لهذه البرامج تبعا للسلطة التي تحكم نموذج عمل المنصات والتي أسست لنماذج شخصيات اعتمدت التفاهة للظهور والانتشار، وهو ما دفعنا لاختيار مقاربة Alain Deneault حول «نظام التفاهة » الواردة في كتابه Mediocracy : The Politics of the Extreme Centre الصادر سنة 2017 والذي يدور حول فكرة محورية أساسها أننا نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدى، تدريجيا، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة، ومنه نقدم قراءة في الحالة الجزائرية والتونسية وفقا لهذه المقاربة نبحث من خلالها عن سؤال جودة البرامج التلفزيونية في ظل تسيد مؤثري المنصات الاجتماعية.

L’état de médiocrité qui caractérise de nombreux programmes télévisés renvoie aux programmes de  «divertissement»  qu’ils diffusent en utilisant toutes les méthodes et tous les moyens disponibles afin d’attirer le plus grand nombre possible de téléspectateurs afin de les transformer en marchandises au profit des annonceurs qui recherchent cibles pour les faire connaître et consommer leurs biens. La mauvaise qualité de la programmation télévisée concerne principalement les émissions de téléréalité, les émissions sur la vie personnelle et les talk-shows. De ce point de vue, la médiocrité de la télévision n’est pas une innovation locale, car ce sont souvent des produits importés qui ont été moulés.
D’autre part, ces programmes ne représentent pas, dans les contextes où ils ont été inventés, une partie seulement du paysage télévisuel, et donc ils ne sont pas un problème en soi parce qu’ils ne sont pas une exception, et parce que les gens sont libres de regarder. La demande de leur annulation constituerait, donc, une soumission de la télévision à des dispositions morales. Cependant, le problème réside dans la prédominance de ce type de programmes et en général dans la stéréotypie de la scène télévisuelle avec la prédominance des soi-disant influenceurs des plateformes sociales pour ces programmes selon l’autorité qui régit le modèle de travail de la plateforme et qui a établi des personnalités des modèles qui ont adopté la banalité pour apparaître et se répandre, ce qui nous a poussés à choisir l’approche d’Alain DENEAULT sur “Le système de l’insignifiance” contenue dans son livre Médiocratie : la politique de l’extrême centre, paru en 2017, qui s’articule autour d’une idée centrale basée sur celle que nous vivons une étape historique inédite, liée à la domination d’un système qui a progressivement conduit au contrôle de l’insignifiant dans tous les aspects du modèle étatique moderne, et nous en proposons une lecture dans les cas algérien et tunisien. Dans cette approche, nous recherchons la question de la qualité des programmes télévisés face à la prédominance des influenceurs des plateformes sociales.

The state of mediocrity that characterizes many television programs refers to the »entertainment« programs they broadcast using all the methods and means available in order to attract as many viewers as possible in order to turn them into commodities at the advantage of advertisers who are looking for targets to make them known and consume their goods. The poor quality of television programming mainly concerns reality shows, personal life shows and talk shows. From this point of view, the mediocrity of television is not a local innovation, because it is often imported products that have been molded.
On the other hand, these programs do not represent, in the contexts in which they were invented, only a part of the television landscape, and therefore they are not a problem in themselves because they are not an exception, and because people are free to watch. The request for their cancellation would therefore constitute a submission of television to moral provisions. However, the problem lies in the predominance of this type of programs and in general in the stereotyping of the television scene with the predominance of the so-called influencers of social platforms for these programs according to the authority that governs the work model of the platform and who established model personalities who adopted banality to appear and spread, which led us to choose Alain Deneault’s approach to »
The System of Insignificance« contained in his book Mediocracy: Politics of the extreme center, published in 2017, which revolves around a central idea based on the one that we are experiencing an unprecedented historical stage, linked to the domination of a system that has gradually led to the control of the insignificant in all aspects of the modern state model, and we propose a reading of it in the Algerian and Tunisian cases. In this approach, we seek the question of the quality of television programs in the face of the predominance of influencers on social platforms.

مقدمة

شكلت شبكة الانترنت منذ ظهورها فرصة ذهبية لوسائل الاعلام الجماهيرية من أجل التواصل مع الجمهور من خلال ما أتاحته من إمكانيات التفاعل الآني والمباشر، تلك الميزة التي افتقدتها هذه الوسائل لسنوات عديدة حالت دون تواصلها الفوري مع أفراد الجمهور، كما أتاحت شبكة الانترنت فرص كبيرة للانتشار بفضل ما تقدمه هذه المنصات من إمكانيات لنشر المحتوى وتبادله بين أفراد الجمهور بشكل مرن وتشاركي غير مسبوق، كل هذه التحولات أسست لبيئة إعلامية جديدة تتعدد فيها منصات إنتاج وتوزيع واستهلاك المضمون وتتسم أيضا بالتفاعلية والتواصل المستمر مع الجمهور.

وعليه أصبحت القنوات التلفزيونية مطالبة بالتأقلم مع عناصر هذه البيئة الإعلامية الجديدة فكان لها حضور الكتروني على شبكات التواصل الاجتماعي في صورة صفحات عامة للقنوات وصفحات أخرى خاصة بالبرامج الرئيسية لكل قناة وحسابات مهنية للمنتسبين لتلك القنوات، من جهة أخرى أدى انتشار استخدام المنصات الاجتماعية بين أوساط الجماهير بمختلف فئاتهم إلى تمكين المستخدمين من انتاج مضامين خاصة بهم تحاكي مضامين وسائل الاعلام الجماهيرية وإنتاج ظواهر جديدة مرتبطة بها منها ظهور ما يسمى بـ «المؤثرين» عبر هذه الوسائط.

تمثل تلك التحولات التي ظهرت نتيجة التكامل بين القنوات التلفزيونية والمنصات الاجتماعية على مستوى المحتوى والتقنية والصناعة ككل نموذجا لظاهرة التكامل بين وسائل الاعلام الجماهيرية وتطبيقات الميديا الجديدة، فهي تبرز ملامح العلاقة المتبادلة بين الطرفين، وتؤصل أيضا لعلاقة تفاعلية بين الجمهور والقنوات التلفزيونية لم يشهدها التلفزيون من قبل، غير أن هذا التبادل والتكامل أنتج بدوره ظواهر جديدة وتحولات في المحتوى وآليات انتاجه واستهلاكه وطرق تلقيه والتفاعل معه من قبل الجمهور.

من زاوية أخرى أدى تحول البيئة التي ينشط فيها التلفزيون إلى طغيان البعد التجاري لنشاط القنوات التلفزيونية بعيدا عن وظائفه الأساسية كركيزة لبناء وتكريس مشروع مجتمعي تنموي، فأصبح التلفزيون منبعا لثقافة الفرجة والاستهلاك من خلال طغيان خدمات الترفيه المرتكزة حول التسلية والمتعة والتشويق والإثارة بعيدا عن مرتكزات الاعلام الهادف والدور التنموي، كما أن تكامل التلفزيون والمنصات الاجتماعية دفع مسؤولي القنوات التلفزيونية إلى استقطاب المؤثرين عبر تلك المنصات من أجل تنشيط أو تقديم أركان أو برامج تلفزيونية لاعتبار عدد المشتركين عبر حساباتهم وقنواتهم على تلك المنصات التي قد تصل إلى ما يفوق مليون مشترك، دون مراعاة لحقيقة الرسالة الإعلامية الهادفة ومدى تأثير الاعلام على الجمهور، هذا التسيد للمؤثرين على المشهد التلفزيوني دفعنا للتساؤل عن جودة البرامج التلفزيونية في ظل هذا التسيد من خلال قراءة تحليلية في الحالة الجزائرية والتونسية وفقا لمقاربة نظام التفاهة لـ Alain Deneault.

تستخدم كلمة التفاهة Mediocrity لوصف طبيعة الشخص أو حالته من حيث التفاهة أو الابتذال أو السخافة أو تواضع المستوى، فيما كلمة Mediocracy هي كلمة جديدة على القاموس نسبيا لم تظهر إلا حوالي سنة 1825 وتعني النظام الاجتماعي الذي تكون الطبقة المسيطرة فيه هي طبقة الأشخاص التافهين أو الذي تتم فيه مكافأة التفاهة والرداءة عوضا عن الجدية والجودة، وعليه فالكلمة هي مقاربة من Alain Deneault لوصف نظام اجتماعي، كما هو الحال مع الديموقراطية مثلا (Deault, 2015) ويرتكز في ذلك على الحقائق التالية :

1.الإطار العام للدراسة

1.1. التبسيط نهج للتفاهة

إن التبسيط إن تجاوز حدوده مثلما يدفع نحوه نظام التفاهة صار خطرا، لأنه يؤدي إلى خفض درجة الجودة، ففي كتابه فلسفة العمل كتب Henry Aphron :

 «نشاهد ازدهارا موصولا لأساطير جوفاء، ولأهواء جمعية غير معقولة، ولتزييفات عقائدية دامية، ثمة مذاهب عابرة تطرح نفسها على أنها حقائق مطلقة وتزعم، بهذا الاعتبار، أنها توجه حياة البشر، وهي وليدة فكر التجمع، وتحمل علاماته: التبسيط، الذي هو عدو كل إرهاف وكل احتياط» (أرفون، 1989)،

وويعتبرAlain Deneault أن كل ما حولنا يشي بتسطيح الهام وتسخيف المعتبر، من خلال الاستخدام المبالغ فيه للغة والخطاب الساذجين، بدعوى التبسيط والحقيقة هي أن هذا التبسيط، إن بولغ فيه، يمكن أن يصل إلى درجة لا يرتجى منها التطور العقلي المجتمعي الصحي، بل يصير مهددا له، وهو ما يستدعي حسبنا التفكير في التبسيط الملاحظ على الإنتاج التلفزيوني وتأثيره على المتلقي والتلفزيون من حيث الدور المنوط به كوسيلة إعلامية تأسس لتنمية الفرد والمجتمع من خلال البرامج التي يبثها.

يقول Alain Deneault وفقا لمقاربته 

«أن إسقاط فكرة التبسيط على التلفزيون تجعلنا ندرك أنه يتصم اليوم بوصمتان كبيرتان تتعلق الأولى بمذيعيه والثانية بضيوفه : فأما عن مذيعي التلفزيون، يلاحظ أن الحياة العامة في السابق كانت لا تقبل إلا من يحددون بدقة هندسية صارمة ما هو القالب العام الذي يودون أن يطرحوا أنفسهم من خلاله أما الآن ومع الاكتفاء بمعيار الجمال وحده فقد اختلف الأمر : صار يمكن لأية جميلة أو وسيم أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين من خلال عدة منصات عامة لا تخرج لنا بأي منتج قيمي صالح لتحدي الزمن، لذلك صرنا نرى المذيعات يتقافزون من فقرات الربط إلى المسلسلات إلى الفوازير ولاعبي الكرة يكتشفون في أنفسهم فجأة مهارة تقديم برامج تلفزيونية، واليقين أن ما شجعهم على ذلك هو أمران حسب Alain Deneault بالدرجة الأولى : الافتقار لثقافة الجمال الحقيقي، ثم أتون الفضائيات التلفزيونية المستمر الذي يتطلب مادة تلفزيونية يومية للحفاظ على استمراريته » (دونو، 2015)،

وهو ما أتاح تسيد المؤثرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي للمشهد التلفزيوني بعيدا عن معايير الصحافة والقيم الإعلامية الهادفة فبسقوط المعايير طغت التفاهة على المشهد الإعلامي.

وأما عن ضيوف التلفزيون، يقول Alain Deneault  «فقد كان صانعو الملوك في الماضي هم رجال الدين ورجال السياسة وحاشية البلاط، أما الآن، فإن الاستديو التلفزيوني هو الصانع الجديد للملوك، ولا يعني نيافة الاستوديو البتة ما اذا كانوا يحملون معهم الكفاءة، الإنجاز، القدرة أو الضمير، فكلما انحدر مليكنا هذا في مقياس الذوق، الأدب والحس السليم » ، يقول Alain Deneault.

« تم تسويقه بشكل أفضل ما يهم الاستوديو هو تقديم هؤلاء الملوك الجدد لشعوبهم من خلال التفعيل الذكي لأدوات الحكم المعاصرة، كل ما يتطلبه الأمر هو أن يقوم الاستوديو بإجلاس الملك الجديد على كرسي المقابلة (العرش)، وأن يضع في يده المايكروفون (الصولجان)، ويثبت على صدره السماعة (الوسام)، ثم يعيد ويكرر مطالبات شعبوية (الدستور)، ويثير الأنصار، بعدها يصير مخولا شرعا لمخاطبة رعيته وتوجيهها من وقع السلطة هذا، وما هي عدة الصنعة الملكية إذا لم تكن عرشا وصولجانا ودستورا وجيشا؟ لقد كثرت الاستديوهات فكثرت الملوك، وهذه هي المشكلة : إن تعدد الملوك، فولاؤنا لمن؟» يتساءل Alain Deneault (دونو، 2015) والملاحظ هنا ان سلطة مواقع التواصل الاجتماعي فرضت واقعا مشابها لم يقدمه Alain Deneault، حيث يعمد التلفزيون إلى استضافة ضيوف انجازهم الوحيد هو تربعهم على عرش الترند مهما كان نوع المحتوى الذي يقدمونه عبر تلك المواقع قيما أو تافها، فسلطة التفاعل مع المحتوى التي أتيحت للمستخدمين أنتجت تراتبية تعتمدها القنوات التلفزيونية في اختيار من يمر عبر قنواتها وفقا لقاعدة «ما يطلبه المشاهدون» وبالتالي كسب الجمهور وإرضاء المعلنين بعيدا عن أي معايير أخلاقية أو مهنية.

2.1.المنصات الاجتماعية ونظام التفاهة

يرى Alain Deneault أن المنصات الاجتماعية هي مجرد مواقع للقاء افتراضي وتبادل الآراء، فيها يتكون «عقل جمعي» من خلال المنشورات المتتابعة، غير أن هذا الفكر التراكمي السريع الذي يبلور بسرعة وبدقة موضوعا محددا، نجح في اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الفكر فيها يتطلب أجيالا من التفاعل (المناظرات والخطابات والمراسلات والكتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد)، ورغم كل هذه الفرص فقد نجحت هذه المنصات على صعيد آخر في «ترميز التافهين» أي تحويلهم إلى رموز (Deault، 2015).

هذا الترميز حسب Alain Deneault جعل الكثير من مشاهير المنصات الاجتماعية يظهرون بمظهر «النجاح» وهو أمر يسأل عنه المجتمع نفسه، الذي دأب على التقليص التدريجي لصور النجاح التي تعرفها البشرية ككل (العمل الجاد والخير للأهل والمواطنة الصالحة وحسن الخلق والأكاديميا والآداب والفنون والرياضة...الخ)، فألغاها جميعا من قائمة معايير النجاح، حتى اختزلها في المال فقط، فلم يبق إلا المال وحده معيارا، فمن ينكر الآن أن المشاهير قد حققوا »النجاح« فعلا، وفقا لمعيار المال، وهو المعيار الوحيد الذي وضعه المجتمع نصب أعين شبابه حسب Alain Deneault، وهو ما يشكل نظاما كاملا للتفاهة يساههم الأفراد والمجتمع في بلورته وعلى جميع الأصعدة (دونو، 2015).

3.1. البهرجة والابتذال عنوان التميز الاجتماعي

يسعى البعض لتخليد اسمه بأي شكل من الأشكال، أيا ما بلغ من فجاجة هذا الشكل أو سطحيته بل وقبحه أحيانا والأمثلة كثيرة، ففي سبيل الشهرة الأنانية، يصبح هؤلاء مثل Herostratus، فيحرق كل معبد كما يقال، والاشارة هنا هي إلى الشخص الذي قام بحرق معبد Artemis في آسيا الصغرى، الذي يعد أحد عجائب الدنيا السبع فقط رغبة منه لتخليد اسمه في التاريخ، وإن كان ذلك من خلال عمل سلبي، إنه نفس النهج الذي يشكل آلية البروز عبر المنصات الاجتماعية والذي يعتمده الكثير من المؤثرين من خلال تحدي الأخلاق والقيم والخروج عن المألوف بما أتيح من صيغ العري والبهرجة والابتذال فقاعدة التميز هي الخروج عن الذوق العام لضمان المشاهدات والمتابعات عبر المنصات الاجتماعية (دونو، 2015).

وكتب Molière مسرحية Le Bourgeois gentil homme وعرضها أمام بلاط لويس الرابع عشر سنة 1670، ناقدا فيها ما ينتشر في الطبقة الوسطى من محاولات التسلق الاجتماعي مع السخرية من سوقية وبهرجة بعض أفرادها من جهة، ومن غرور وتعالي الطبقة الارستقراطية من جهة أخرى.

كل هذه الأمثلة تدفعنا حسب Alain Deneault للقول بأنه ما من سمة تنبؤنا بكوننا محاطين بالتفاهة أوضح من أن نرى أنفسنا وسط أجواء من البهرجة والابتذال، فهي مؤشرات على غياب العقل وعلى الحاجة إلى إذهال العين للفت الأنظار وشغلها عن إدراك الفراغ الكبير الذي تركه غياب العقل (Deault، 2015)، وهذا ما تتسم به العديد من المنصات الاجتماعية التي تعج بمحتويات لمؤثرين بعيدة كل البعد عن القيم والأخلاق.

4.1. علاقة منفصلة عن الواقع

حسب Alain Deneault فإن اللحظات التاريخية التي نشهدها على التلفزيون تختفي بمجرد استهلاكها، ففي مقاله المعنون Die Antiquiertheit des Menschen الذي نشره في سنة 1956 (Anders، 1956)، كان الفيلسوف الألماني Gunther Anders قد عرف التلفزيون سلفا بأنه ضار بعلاقات المجتمع مع الواقع، حتى أكثر الناس معارضة لهذا الوسيط هم في الحقيقة متأثرون به : عندما يخرج أحدهم من البيت ليقضي بعض الوقت مع أقرانه من البشر، يدرك أن هؤلاء الناس الذين كان يعول عليهم لتحويل «الواقع» إلى وجود بالمعنى الاجتماعي، إنما ظلوا بالمنزل لمشاهدة نسخة تحاكي الواقع الاجتماعي على التلفزيون (دونو، 2015).

بعيدا عن الاعلام الجمعي، فإن التلفزيون على خلاف ذلك هو قوة لنزع الصفة الجمعية : إنه يفصل الأفراد الذين يشكلون الجماعة ويعزلهم عن بعضهم فيما هو يقدم لهم الشيء ذاته بالتزامن (في الوقت ذاته) وبالتشابه (المحتوى ذاته)، نحن نتعايش اجتماعيا من خلال التشارك في واقع لا نستهلكه إلا في العزلة وهكذا ينتج التلفاز كائنا اجتماعيا جديدا هو «السلطعون الناسك الجمعي» Hermit Crabs،«يجلس الملايين منهم في الآن ذاته، منفصلين، ومع ذلك متماثلين، منغلقين في أقفاصهم كما السلطعونات الناسكة لا رغبة منهم في الفرار من العالم، بل من أجل التأكد تماما من ألا يفوتهم أي فتات من أي صورة تظهر لهم على الشاشة» (دونو، 2015). وهكذا يكون الواقع متأنقا، مقتطعا من سياقه، مؤطرا، ومعدا كما ينبغي، فيوصله التلفاز إلى بيوتنا مثل سلعة، حتى لا نكون بحاجة إلى معايشته أو القيام به، وبتزاوج المنصات الاجتماعية مع التلفزيون تبدو الصورة أعمق فسلطة التلقي التي يعتقد أنها تحكم الجمهور فيما يتعرض له من خلال اختيار سياق تلقيه للمنتجات التلفزيونية لا تمنع حقيقة تماثل ذلك الجمهور واستغراقه، بل حتى المؤثرين يعمدون لنهج نفس الآلية لضمان أكبر مردودية لمحتوياتهم من حيث الانتشار والموارد.

من زاوي أخرى يمكننا التلفزيون من ألا نعيش شيئا يحدث على مسافة منا، بل من إنكار وجود المسافة، إنه لا يرسي علاقة مع شيء عظيم وعميق إذا كان يحدث بالانفصال عنه، عوضا عن ذلك يبدو أنه يحتوي ما يقدمه تماما، للمفارقة، ما ينفيه التلفزيون هو بعد ما ينقله، والسبب الأول لذلك هو أن الشاشة لا تقدم نفسها كإعادة انتاج للعالم، وإنما كنافذة مطلة عليه، يصمم Gunther Anders على أن التلفزيون لا يركب صوره بناء على العالم، بل إنه يحل محل العالم بالكلية (Anders, 1956). إن هذا يعني أننا بالنهاية لن نعرف بشكل أصيل الفرق بين حضور حدث ما عن طريق وسائل الاعلام وبين المشاركة فيه جسديا، أما السبب الثاني فهو أن معدي البرامج نجحوا في جعل الشخصيات التلفزيونية تنتج حميمية زائفة Pseudo-Intimacy مع الجمهور) دونو, 2015(، وهي نفسها الحميمية التي يعمل التلفزيون على استغلالها باستقطاب المؤثرين ضمن برامجها مهما كان مستوى المؤثر فعدد المشتركين والمتابعين ومستوى التفاعل للمؤثرين هو ما يهم لأنهم نجحوا في تحقيق الحميمية الزائفة في نظر مسؤولي القنوات التلفزيونية.

وهنا لنا أن نتساءل عن هذه البرامج التي يقوم عليها نموذج التلفزيون حاليا وأسباب طغيانها في المشهد التلفزيوني العمومي منه والخاص وتسيد مؤثري المنصات الاجتماعية لها، هل هو ذوق الجمهور الذي تستجيب له القنوات التلفزيونية كما يردد ذلك البعض؟، وفي هذه الحالة فإن هذه البرامج ليست سوى انعكاسا طبيعيا لثقافة المجتمع السائدة، أم أن الأمر يتعلق باستراتيجية تلك القنوات التلفزيونية لخلق جمهور لهذه البرامج في سبيل الحصول على موارد إشهارية أكبر، أم ان هذه الظاهرة حتمية لاعتبارات التكامل والتبادل للتلفزيون كوسيلة اعلام جماهيرية والمنصات الاجتماعية كوسيط اعلامي جديد.

بذلك نلاحظ عبر العديد من القنوات والبرامج تراجعا كبيرا لقواعد ومعايير الأداء الإعلامي في مقابل تصاعد أشكال الرداءة والتفاهة حيث تراجعت معايير الجودة وغيب الأداء المهني وعزلت منظومة القيم وبرزت البهرجة والابتذال واتسمت الأذواق بالسطحية فتسيدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين وذوي البساطة الفكرية، وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية، ودائما تحت شعارات الديموقراطية والشعبوية والحرية والخيار الشخصي، حتى صار الأمر يذكر بما حذر منه Charles Louis de Secondat (Montesquieu) بوجوب صون الحرية من الابتذال، عندما قال «إن ممارسة الحرية من قبل أكثر الشعوب تمسكا بها تحملني على الاعتقاد بوجود أحوال ينبغي أن يوضع فيها غطاء يستر الحرية مثلما تستر تماثيل الآلهة » (مونتسكيو، 2014)، وهو ما يحيلنا إلى تقديم قراءة تحليلية لهذه الظاهرة من خلال الحالتين التونسية والجزائرية.

2.قراءة في الحالة التونسية

إن حديثنا عن طغيان نموذج التلفزيون التجاري الترفيهي المنمط وغير المتنوع في الحالة التونسية يستوجب اتباع مساره التاريخي منذ تأسيس مؤسسة التلفزة الوطنية التونسية، فقد عرف التلفزيون التونسي عصرين أساسين: العصر الأول يمكن أن يوصف بالسلطوي عندما كان التلفزيون أداة في يد الدولة خاضعا إلى السلطة السياسية باعتباره مؤسسة من مؤسسات إدارة المجتمع، أما العصر الثاني فهو عصر التلفزيون التجاري الترفيهي أو تلفزيون التسلية الذي أصبح يحكمه منطق السوق في مرحلة ثانية (الصادق، 2022).

1.2. التلفزيون السلطوي الدعائي 

تأسس التلفزيون التونسي بعد 10 سنوات من الاستقلال في سياق تاريخي وسياسي مخصوص جدا كانت فيه النخب السياسية لا تزال تحظى بشرعية قوية لأنها كانت حاملة لمشروع «التنمية الشاملة» وبناء مؤسسات الدولة الوطنية الجديدة، وإدراكا من الرئيس الحبيب بورقيبة لقدرة التلفزيون على توفير موارد جديدة وهائلة لبسط نفوذه الرمزي على المجتمع وتعزيز سلطته كزعيم وهو ما دفعه إلى اخضاع التلفزيون التونسي في تلك الفترة لخدمة مشروعه خلال فترة رئاسته.

ساهم التلفزيون كوسيط على نحو ما في إقامة علاقة سياسية ذات طبيعة سلطوية جعلت من الرئيس بورقيبة مؤطرا للحياة السياسية والاجتماعية، ومنه يمكن القول أن التلفزيون كما أراده الرئيس بورقيبة قد شكل ملامح التلفزيون العتيق (Paléo Télévision) كما يسميه Umberto Eco، تلفزيون مؤسساتي في خدمة السياسي ووسيلة لدعايته (الصادق، 2022).

2.2. تلفزيون الترفيه

ظهرت برامج الترفيه مع نجيب الخطاب الذي يمكن أن نقول إنه يمثل أول نجم تلفزيوني، وتعززت مع الكاميرا الخفية والفوازير، وظهر في نهاية الثمانينيات، الإشهار التلفزيوني الذي تعاظم دوره كمعيار أساسي في تصميم البرامج وفي اتجاهات البرمجة التلفزيونية، وهكذا تراجع البعد المؤسسي للتلفزيون لصالح البعد الترفيهي، وأصبح التلفزيون أكثر انفتاحا على المجتمع التونسي (الصادق، 2022).

ثم جاءت القناتان الخاصتان «حنبعل» و «نسمة» بأسلوب جديد عبر برامج مثل «ستار أكاديمي المغرب العربي» ، لكن التغيير الحاسم تجسد بواسطة التلفزيون العمومي نفسه، وهذه هي المفارقة، حينما كان حاضنة النموذج التلفزيوني الجديد الترفيهي التجاري في النصف الثاني من العقد الماضي انطلاقا من سنة 2005. إذ مثلت البرامج التي أنتجتها (Cactus Prod) لصالح التلفزيون العمومي بوادر ما يسمى بـ «سلعنة» التلفزيون أو خضوعه إلى منطق السوق أي بمعنى آخر إخضاع فلسفة برمجة التلفزيون إلى منطق الإشهار عندما أصبحت البرامج تصمم وفق قابليتها على استقطاب المعلنين وإعلاناتهم (الصادق، 2022).

لكن التحول الذي شهده التلفزيون في تلك الفترة شمل أيضا مستوى آخر لا يقل أهمية، إذ تعاظم البعد الاجتماعي للتلفزيون بحضور الناس العاديين فيه. ففي برامج «دليلك ملك» و «أحنا هكا» و «أخر قرار» و «عندي ما نقلك»، فقد التلفزيون نهائيا طابعه النخبوي باعتباره مخصصا للنخب السياسية وأصبح مفتوحا لظهور الإنسان العادي في الشاشة.

لم يعد التلفزيون مجالا يحتكره الرئيس والسلطة السياسية فقط بل أصبح أيضا نافذة على عوالم التونسيين الاجتماعية محافظا في الوقت ذاته على طابعه السلطوي، أسست برامج (Cactus Prod) لنموذج تلفزيون جديد اجتماعي، حميمي، شعبي، يسعى إلى أن يكون منفتحا على الإنسان العادي الذي بإمكانه أن يحضر فيه للهو والعب أو لسرد حياته الخاصة.

والحقيقة أن هذا التحول حسب الصادق الحمامي مرتبط بتحولات المجتمع التونسي نفسه، فقد استجاب التلفزيون في منتصف العقد الماضي بشكل جزئي إلى تحولات المجتمع وظهور الأنترنت والمنافسة العربية والعالمية وحاول أن يتأقلم مع بيئته الجديدة، لكن هذا الأسلوب الجديد الاجتماعي كان أيضا الطريقة الأمثل والأنجع للحصول على المداخيل الإشهارية، هكذا كان التلفزيون في السنوات الأخيرة من عهد نظام الرئيس السابق الحبيب بن علي مزيجا هجينا يتعايش فيه التلفزيون القديم السلطوي الدعائي الخاضع إلى إرادة السلطة السياسية والتلفزيون الجديد الترفيهي التجاري الخاضع إلى منطق السوق.

3.2. الرداءة أداة للتنميط 

ظهرت بعد الثورة التونسية قنوات تلفزيونية خاصة جديدة سرعان ما أندثر عدد منها، واتخذ التلفزيون (العمومي والخاص) بعد الثورة بعدا سياسيا جديدا وانفتح على الحياة السياسية بعد أن أصبح فضاء من فضاءات المجال العمومي التونسي الجديد بفضل البرامج الحوارية على وجه الخصوص التي تحولت إلى حلبة يتصارع فيها السياسيون، ثم تراجع تدريجيا هذا البعد السياسي بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية 2014 وخفت الاستقطاب السياسي وتناقصت البرامج الحوارية لصالح أنواع أخرى من البرامج الترفيهية، فاجتاحت المسلسلات التركية كل القنوات بما في ذلك القنوات التلفزيونية العمومية ثم ظهرت برامج Talk-Show التي تجسد معها في مظاهره المثلى التلفزيون الترفيهي، يمثل هذا الخليط بين المسلسلات التركية وبرامج Talk-Show هوية التلفزيون السائد العمومي منه والخاص على حد سواء (الصادق، 2022).

4.2. نقد المشهد التلفزيوني التونسي 

يتساءل الصادق الحمامي هل يعبر المشهد التلفزيوني على التنوع الثقافي والفكري والاجتماعي والسياسي للمجتمع التونسي؟ وهل يحقق حاجات التونسيين إلى تلفزيون متعدد الأبعاد والوظائف أي الأخبار والنقاش السياسي والبرامج الثقافية والمعرفة وتمثيل مظاهر حياة التونسيين المتنوعة والمختلفة؟ ليرد بالقول أنه لا شك أن المشهد التلفزيوني غير متوازن بالمرة يقوم بشكل كامل تقريبا على طغيان الترفيه والتسلية الذي يمثل في الحقيقة خضوع التلفزيون إلى منطق السوق بشكل يكاد كليا، أو بمعنى آخر، لا يخدم المشهد التلفزيوني الجمهور بقدر ما يخدم مصالح القنوات التلفزيونية في الحصول على أكبر قدر ممكن من الموارد الإشهارية، وتستخدم هنا آلية قياس الجمهور كآلية للشرعنة بمعنى إضفاء شرعية لنموذج التلفوني التجاري المحض عبر إظهار هذا النوع من التلفزيوني باعتباره نوعا شعبيا يحقق اشباعات الجمهور وميولاته (الصادق، 2022).

كما يشير الصادق الحمامي إلى أنه يمكن الحديث عن وجود حالة من الاغتراب التلفزيوني لأن التلفزيون التونسي السائد اقتصر على إشباع حاجات بعينها أي الترفيه والتسلية دون الحاجات الأخرى المتنوعة الضرورية للإنسان التونسي باعتباره كائنا متعدد الأبعاد، وحسب الصادق الحمامي دائما فإن الأمر لا يتعلق بتجريم الحاجة إلى الترفيه لأن التلفزيون ليس مدرسة حسب قوله بقدر ما يتعلق بإدانة اختصار التلفزيون في هذه الحاجات بعينها دون غيرها.

إن الاغتراب التلفزيوني الذي يعيشه التونسيون يعني هنا أن الوفرة التلفزيونية هي في الحقيقة حرمان التونسيين من إمكانات أخرى يمكن أن يوفرها التلفزيون، أي إن ما نراه في الشاشة لا يشبه المشاهد التونسي ولا يعبر عنه.

5.2. أزمة منظومة حوكمة الاعلام التلفزيوني

يبدو واضحا أن منظومة حوكمة الإعلام وتعديلها لم تنجح في إرساء مشهد تلفزيوني يحقق مقاصد فلسفة تعديل الميديا السمعية البصرية التي تقتضي أن يضمن المشهد السمعي البصري حق التونسيين في «الإعلام والمعرفة من خلال ضمان التعددية والتنوع في البرامج المتعلقة بالشأن العام»، و«أن يوفر برمجة إعلامية دقيقة ومتوازنة، وأن يشجع على برمجة تربوية ذات جودة عالية... تعبر عن الثقافة الوطنية» (الصادق، 2022).

3. قراءة في الحالة الجزائرية

عند حديثنا عن تطور التلفزيون الجزائري يجب مراعاة الجوانب التالية:

  1. مر مشروع إقامة إعلام وطـني ومنـه التلفزيـون عـبر إعـادة النظـر في مختلـف التشـريعات والنصـوص الإعلاميـة التي كانت تسيطر على القطاع السمعي البصري إبان الفترة الاستعمارية وبعدها.

  2. الحاجة إلى إعــادة بنــاء قطــاع الســمعي البصــري وتــدعيم مختلــف البنيــات القاعديــة بالشكل الذي يخدم أهداف الأمة فيما يخص القضاء على التخلف وتحقيق التنمية.

  3. ضرورة تكييف قطـاع السـمعي البصـري مـع التطـورات الحاصلة على مسـتوى الخدمـة المقدمة من قبل هذه الوسائل.

  4. وقد مر تطور الإعلام الجزائري عموما عبر أربعة مراحل والتي نذكرها كما يلي :

  • المرحلة الأولى (1962-1965): شكلت هذه المرحلة تمهيدا لإقامة إعـلام وطـني يسـتجيب لحاجيـات الوطن، ويشارك القطاعـات الأخـرى في مسـيرة التنميـة، وأهـم مـا ميـز هـذه المرحلـة هـو العمـل علـى تحريـر قطاع الإعـلام مـن السيطرة الفرنسية من حيث الملكية والإدارة والإشراف.

  • المرحلة الثانية (1976-1965) : تميـزت بإصـدار مراسـيم جديـدة في قطاع الإعـلام، وتم إلغاء العمل بـالقوانين الفرنسـية الـتي كانـت تـنظم قطاع الإعلام الـتي تم تمديـد العمـل بها بعـد الاسـتقلال ففـي سنة 1967 تم إلغـاء العمل بالنصـوص الفرنسـية في مجــال الإعــلام الــتي مدد ســريان مفعولهــا حيث اتسمت السياسة الإعلاميـة خلال هذه المرحلة بالكثير من الغموض على الصعيد القانوني والميداني (الغاني، 2012)، إذ أنـه إلى غايـة سنة 1976 لم يكـن هنـاك قـانون للإعـلام يـنظم ممارسـة الأنشـطة الإعلاميـة كمـا في ذلـك القطـاع السـمعي البصري وهذا الفراغ القانوني كانت له انعكاسات سلبية من غير شك على نشاط وسائل الإعلام، الأمر الـذي جعـل أحـد المختصين يصف هذه المرحلة بالسبات الشتوي (حفصة، 2015).

  • المرحلة الثالثة (1990-1976) : شهدت هذه المرحلة بداية الاهتمام بقضايا وسـائل الإعـلام في استكمال بناء مختلف المؤسسـات والهياكـل السياسـية والاقتصـادية وبـدأت المعـالم السياسـية والإعلاميـة في القطـاع تتضـح مـع صـدور الميثـاق الـوطني سنة 1976، حيـث أشـار إلى الـدور الاسـتراتيجي لوسـائل الإعـلام في خدمـة أهـداف التنميـة، كمـا دعـا إلى إصـدار قـوانين وتشـريعات تحـدد تحديـدا سـليما دور الصـحافة والإذاعـة والتلفزيـون والسـينما في مختلـف المشـاريع الوطنيـة، والاهتمـام بـالتكوين في مجـال الإعـلام، وتـوفير الإطـارات الإعلاميـة اللازمـة المواكبـة لخطـط التنميـة وإشـباع مختلــف حاجــات الجمــاهير في إعــلام موضــوعي وجيــد، وعرفــت بدايــة الثمانينيــات مناقشــة أول مشــروع لملــف السياســة الإعلامية في الجزائر منذ الاستقلال، وتم التأكيد على أن مفهوم الجزائـر للإعـلام جـزء لا يتجـزأ عـن السـلطة السياسـية المتمثلـة في حزب جبهـة التحريـر الـوطني وأداة مـن أدواتها في أداء مهمـات التوجيـه والرقابـة والتنشـيط، وتم تحديـد وظـائف الإعـلام على النحو التالي (فوزيـة، 2012) :

  1. التربية والتكوين والتوجيه

  2. التوعية والتجنيد

  3. التعبئة

  4. الرقابة الشعبية

  5. التصدي للغزو الثقافي

كمـا عرفـت هذه المرحلـة صـدور أول قـانون للإعـلام في الجزائـر سنة 1982 في ظـل الحـزب الواحـد ضـمن الخطـوط العامـة للميثاق الوطني ودستور سنة 1976.

  • المرحلة الرابعة (2007-1990) : بـدأت هـذه المرحلـة منـذ 1990 بصـدور الدسـتور الجديـد الذي نـص في مادتـه 40 علـى التعدديـة وحريـة إنشـاء الجمعيـات ذات الطابع السياسي (الأحزاب)، وتميزت هـذه المرحلـة بصـدور العشـرات مـن الصـحف خاصـة بعـد صـدور قـانون الإعـلام لسنة 1990، والذي أكد على حرية إنشاء العناوين الصحفية المسـتقلة إلا أن قطـاع السـمعي البصـري ومنـه التلفزيـون بقـي تحت وصاية الدولة، وصــدر منــذ 1990 مشــروعان تمهيــديان لقــانون الإعــلام ســنة 1998 وســنة 2002 وقــد تنــاولا القطــاع الســمعي البصـري بشـيء مـن التوسـع والتركيـز، ولكـن حساسـية القطـاع وخاصـة التلفزيـون جعـل الدولـة مـترددة في تحريــره وفتحه للاستثمارات الخاصة والمستقلة بعدم إصدار قانون جديد للإعلام.

1.3. فتح قطاع السمعي البصري 

قانون الاعلام 12-05 : القانون العضوي 12-05 المؤرخ في 12 يناير 2012، جاء لكسر الفراغ القانوني الذي عرفه قطاع الاعلام منذ التسعينيات، لمدة تجاوزت عشرين سنة، منذ تطبيق القانون السابق 90-07 المتعلق بالإعلام، أهم ما جاء به هذا القانون هو فتح قطاع السمعي البصري للخواص، حيث نص على أن أنشطة الاعلام تضمن على وجه عن طريق (قانون الاعلام 12-05) وسائل الاعلام التابعة للقطاع العمومي، وسائل الاعلام التي تنشئها هيئات عمومية وسائل الاعلام التي تملكها أو تنشئها أحزاب سياسية او جمعيات معتمدة، وسائل الاعلام التي يملكها أو ينشئها أشخاص معنويون يخضعون للقانون الجزائري ويمتلك رأسمالها أشخاص طبيعيون أو معنويون يتمتعون بالجنسية الجزائرية، ويقصد بأنشطة الاعلام (قانون الاعلام 12-05) «كل نشر أو بث لوقائع أحداث أو رسائل أو آراء أو أفكار أو معارف، عبر أي وسيلة مكتوبة أو مسموعة أو متلفزة أو الكترونية، تكون موجهة للجمهور أو فئة منه، ومنه فتح مجال الإذاعة والتلفزيون للقطاع الخاص».

لم يكن للانفتاح المغلق الذي شهده السمعي البصري بداية من 2012 عن طريق قنوات بقوانين اجنبية ومحتويات هجينة إلا وسيلة لتحويل الإعلام من سوق الدعاية الرسمية إلى السوق التجارية لتظهر للعلن قنوات دون هوية تلخص حرية التعبير والحق في الإعلام وتعمل على تقديم حلول شكلية تغيب فيها طاقات التغيير الحقيقي ليكون الخاسر الأكبر هو المواطن الذي فقد قدرات النقد والتفكير في واقعه وايجاد الحلول المناسبة.

2.3. وصاية الوزارة ورقابة سلطة الضبط 

تعمد وزارة الاتصال على تأكيد احترام أخلاقيات المهنة وقواعدها القانونية والتنظيمية، وعليه يصل تدخلها في حال الإخلال بهذه القواعد إلى سحب رخصة ممارسة نشاط السمعي البصري الممنوحة من طرفها إلى قنوات تلفزيونية تخضع لقوانين أجنبية.

من جهتها تعمل سلطة ضبط السمعي البصري على رصد التجاوزات المهنية والأخلاقية خلال بث القنوات لبرامج مبتذلة، وقد عمدت على إصدار إنذارات لهذه القنوات للكف عن مثل هذه الانحرافات التي لا تخدم المشهد الإعلامي السمعي البصري في أداء أدواره الحقيقية والمساهمة في تنمية الإبداع الفكري والفني في ظل احترام مقومات ومبادئ المجتمع والالتزام بالقيم الدينية والوطنية.

كما دعت سلطة ضبط السمعي البصري القنوات التلفزيونية إلى الابتعاد من خلال شبكتها البرامجية عن جميع مظاهر العنف وتهديد الصحة النفسية وضرورة احترام مبادئ المهنة والرقي بالذوق العام، كذلك، أكدت السلطة عزمها على ترقية المشهد الإعلامي السمعي البصري وضبطه طبقا لأخلاقيات المهنة وقواعدها القانونية التنظيمية حتى من خلال سحب رخصة ممارسة نشاط السمعي البصري الممنوحة من طرف وزارة الاتصال إلى قنوات تلفزيونية تخضع لقوانين أجنبية.

3.3. مشهد الفوضى والأداء الهزيل 

كما شهدت القنوات التلفزيونية بقطاعيها العام والخاص رغم التجربة الفتية نفس مسار نظيرتها التونسية في كم البرامج الاجتماعية المبهرجة دون تعاطي مهني مع المشاكل الاجتماعية وغياب النقاش السياسي الهادف، كما ركزت تلك القنوات على سلعنة المشاهد وتوظيفه لتلقي الاشهار بحثا عن المداخيل الاشهارية فكثرت المسلسلات التركية والبرامج الحوارية التي اعتمدت المؤثرين في استقطاب المشاهدين.

يشكل تركيز اعتماد القنوات التلفزيونية الجزائرية على مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي مؤشرا على تغيير جوهري في سياسات أو استراتيجيات القنوات في كسب أكبر قدر ممكن من الجمهور وازدياد حجم المشاهدة خاصة من فئة رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين يتشكلون عموما من الشباب المستخدم والمتابع لمثل هؤلاء المؤثرين عبر مختلف المنصات الاجتماعية، فالاتجاه نحو التسويق الإعلامي والاشهاري لجذب المؤسسات الاقتصادية والخدماتية يعتمد على استهداف الحصول على حصة من سوق الإشهار لما يشكله الإشهار من أساس في حياة المؤسسة الاعلامية واستمرارها مهما كان مستوى المحتوى الذي يقدمونه هؤلاء المؤثرون أو تمكنهم من المجال الإعلامي وأخلاقياته، ورغم ما يعود عليه توظيف القنوات لهؤلاء المؤثرين من أرباح إضافية على المدى القصير فإنه في المقابل يضر بمساراتها وسمعتها على المدى البعيد.

من جهة أخرى، يعد توظيف المؤثرين ضربا واضحا لمعايير اختيار وانتقاء الوجوه الإعلامية حسب المعايير المهنية، كالاحترافية والخبرة والسمعة، أي الكفاءات التي لها مسار علمي وتكويني، يتناسب مع الحصص المقترحة، إن لجوء القنوات لهؤلاء المؤثرين، قد خلق نوعا من الارتياب داخل المجتمع، ومنه الجمهور الذي في الكثير من المرات استنكر العديد من الحصص، نظرا لعدم تمكن هؤلاء المؤثرين من الأداء المطلوب، كاللغة وبناء المحتوى، ناهيك عن التنشيط غير المحترف.. وتحديد الأهداف، إضافة إلى السقطات من حين إلى آخر، والتي بدورها تضرب قيم المجتمع في الصميم، وتقدم نماذج لا تتماشى مع واقع وتطلعات المجتمع في خلفياته وإبعاده وهو ما أدى إلى انتشار التفاهة والابتعاد عن القيمة الإعلامية وأسس لنماذج نجاح تعتمد التفاهة ويسوقها التلفزيون عبر برامجه.

إن غياب شفافية الهيكل التأسيسي للقنوات التلفزيونية في الحالتين الجزائرية والتونسية أدى إلى حالة الفوضى التي قد تبدو منظمة لهذا القطاع الذي لا يزال بحاجة إلى ترتيب، كما أن ظاهرة تحول بيئة نشاط التلفزيون التي تحكمه المنصات الاجتماعية بنموذجها الاقتصادي الجديد أدى إلى تسيد المؤثرين للبرامج التلفزيونية والذي ساهم في انتشار التفاهة والابتعاد عن الرسالة الحقيقة للإعلام، وهو ما يفرض جملة من الإجراءات نقترح منها :

  • إرساء إطار فعال لحوكمة المؤسسات الإعلامية وتوزيع المسؤوليات بين مختلف الجهات، وحماية حقوق أصحاب المصالح من أجل تحسين أداء المؤسسة بصورة كبيرة.

  • تطبيق الحوكمة في المؤسسة الإعلامية لزيادة الثقة في المؤسسة الإعلامية ورسالتها والتفاعل معها، وتعميق الدور الاجتماعي لها.

  • ترشيد الاتجاهات السياسية والفكرية لممولي المؤسسات الإعلامية.

  • إرساء ضمانات للحيلولة دون استغلال الجهات الرسمية للحوكمة في التضييق على الحريات الاعلامية.

  • المزيد من الإجراءات والتعليمات والقوانين التي تلتزم بها المؤسسات الإعلامية والحكومات، والتركيز على الإفصاح والشفافية والمساءلة والرقابة في إدارة المؤسسة الإعلامية، ثم تعزيز ثقافة الحوكمة في المؤسسات الإعلامية.

  • تدخل الهيئات المعنية لضبط معايير التوظيف والعمل التلفزيوني المحترف (أخلاقيات المهنة)، حسب الاستراتيجية أو السياسة الإعلامية للدولة وإلا ما الهدف من وجود مؤسسات التكوين المتخصصة في المجال.

خاتمة

أصبح المشهد التلفزيوني اليوم يتسم بالرداءة يحكمه منطق التسلية والترفيه وينشط فيه نجوم المنصات الاجتماعية من المؤثرين ويتسم بالتنميط والدعاية المثيرة إلى حد التفاهة بعيدا عن معايير الجودة والأبعاد القيمية للعمل الاعلامي، وهو ما يبرز الحاجة لتطوير فكر ناقد لاحتكار التلفزيون في الأداء الترفيهي بعيدا عن الأدوار الأخرى المنوطة به ما كرس للرداءة والترويج لها لمصالح تجارية، فأفرغت القنوات التلفزيونية من أدوارها وطغى عليها الفكر التجاري الذي يسعى للربح فقط، كما يجب أن ينصب الفكر الناقد للتلفزيون على نقد منظومة الحوكمة الإعلامية لإرساء المتطلبات الضرورية من أجل تلفزيون منفتح على المجتمع بجميع أطيافه وحتى يرسي نافذة على أوجه الحياة المتعددة بعيدا عن التحيز والتنميط والقولبة.

إن هيمنة برامج التفاهة بالمعنى الذي أشرنا إليه والذي يعد بعدا من أبعاد نظام التفاهة الذي أشار إليه Alain Deneault، والذي يعبر عن تلك البرامج القائمة على التسلية والترفيه تحقيقا لاستهداف المشاهد لاستهلاك الإشهار التجاري فقط، إنما هو دليل على أزمة التلفزيون والحاجة إلى إعادة تنظيمه وعدم الاكتفاء بمنح التراخيص ومعاينة التزام القنوات التلفزيونية ببنود دفاتر الشروط، بل تعدي ذلك إلى تنظيم المشهد التلفزيوني برمته لتحقيق غايات التلفزيون المتنوعة والمتعددة السياسية منها والاجتماعية والثقافية وليس اختزالها في البعد الترفيهي فقط.

إن مجرد تتبعنا لسيرورة تطور البرامج التلفزيونية يمكننا من القول أن الفاعلين في المشهد التلفزيوني وملاكه لا يعيرون التحول الديمقراطي الذي شهدته الجزائر وتونس كبديل عن سلطوية الدولة على التلفزيون منذ نشأته أي اهتمام، بل دفعته دفعا نحو سطوة السوق فاكتفى التلفزيون بخدمة نفسه تجاريا عبر استقطاب الريع الإشهاري، وتحقيق أكبر قدر من الاستهلاك، على حساب الأهداف المختلفة للإعلام بما حرم شرائح متعددة من المجتمع في حقها الشرعي في اعلام هادف وجاد.

وخلاصة القول أن التلفزيون انتقل من سيطرة السلطة السياسية إلى سيطرة الفكر التجاري وقانون السوق والفاعلين عبر المنصات الاجتماعية، ومن هذا المنظور فإن سؤال جودة البرامج التلفزيونية في ظل تسيد مؤثري المنصات الاجتماعية وطغيان الرداءة والتفاهة هو نتاج لسياق أزمة منظومة تنظيم المشهد التلفزيوني، فانتقلنا من مرحلة الهجران إلى الإحساس بالاغتراب فلا تعكس تلك البرامج واقعنا ولا تعبر عنه.

Alain Deault. (2015). la médiocratie. Lux éditeur.

Gunther Anders. (1956). Die Antiquiertheit des Menschen. Munich : Verkag C.H. Beck.

ألان دونو. (2015). نظام التفاهة، ترجمة مشاعل عبد العزيز الهاجري. بيروت، لبنان: دار سؤال.

الحمامي الصادق. (27 مارس, 2022). تونس ultra. تم الاسترداد من تونس ultra : https://ultratunisia.ultrasawt.com

سعيود عبد الغاني. (2012). تأثير حرية الصحافة في الجزائر على الممارسة المهني. الجزائر: مذكرة مقدمة لنيل شهادة الماجستير.

عكـاك فوزيـة. (2012). القـيم الخبريـة في الصـحافة الجزائريـة الخاصـة، دراسـة تحليليـة ميدانيـة لصـحيفتي الخـبر والشـروق اليـومي. الجزائر: أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في علوم الإعلام والاتصال.

قانون الاعلام. (12/01/2012). المادة 4. 12-05.

قانون الاعلام. (12/01/2012). المادة 03. 12-05.

كوبيبي حفصة. (2015). تطور قطاع السمعي البصري في الجزائر 2014-1962، نظرة تاريخية قانونية. جامعة وهران: مجلة الراصد العلمي.

مونتسكيو. (2014). روح الشرائع، ترجمة عادل زعيتر وأنطوان نخلة قازان. بيروت، لبنان : المنظمة العربية للترجمة.

هنري أرفون. (1989). فلسفة العمل، ترجمة عادل العوا. بيروت، لنان : منشورات عويدات.

هدير محمد

المدرسة الوطنية العليا للصحافة وعلوم الاعلام

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article