مبدأ الفرضيّة عند تشومسكي

Chomsky’s principle of hypothesis

عبد العالي كلثوم Kaltoum Abelali et سالمي عبد المجيد Salmi Abdelmadjid

Citer cet article

Référence électronique

عبد العالي كلثوم Kaltoum Abelali et سالمي عبد المجيد Salmi Abdelmadjid, « مبدأ الفرضيّة عند تشومسكي », Aleph [En ligne], mis en ligne le 08 avril 2024, consulté le 30 avril 2024. URL : https://aleph.edinum.org/11439

يلجأ تشومسكي في منهجه التفسيري لمختلف القضايا اللسانيّة إلى المبدأ العلمي وهو وضع فرضيات علميّة ينطلق منها لإثباتها أو تفنيدها وفق المعطيات التي يملكها، وقد استمدّ هذا المبدأ من العلوم البحتيّة متأثّرا بالريّاضيّات والفيزياء والعلوم البيولوجيّة والفلسفة، والمناهج العقليّة المنطقيّة، وقد لجأ إلى ذلك لأنّه تجاوز الملاحظة والوصف إلى التّفسير؛ تفسير البنيّة الدّاخليّة الذّهنيّة للّغة البشريّة في ذهن/دماغ المتكلّم المستمع المثالي.

ويعتبر تشومسكي الفرضية العلميّة مبدأ أساسيّا في منهجه لا يمكن الاستغناء عنه، وهذا ما مكّنه من تفسير الكثير من القضايا المتعلّقة ببنية اللّغة، والرّد على خصومه من البنيويين والسّلوكيين وتفنيد آرائهم. كما مكّن نظريّته التوليديّة التّحويليّة من التطّور والتّوسّع والاستمرار رغم بعض المؤاخذات على فرضياته.

Chomsky adhère au principe scientifique en formulant des hypothèses et en les testant par la suite à l'aide des données disponibles afin de les confirmer ou de les réfuter. Il a dérivé ce principe des sciences exactes, puisant son inspiration dans les mathématiques, la physique, les sciences biologiques, la philosophie et le raisonnement logique. Ce changement de cap, passant de l'observation et de la description pure et simple du langage à l'analyse, est motivé par son exploration des structures mentales internes sous-tendant le langage humain dans le cerveau des interlocuteurs idéaux.

Chomsky considère l'hypothèse scientifique comme un pilier de son approche, lui permettant d'examiner diverses questions de structure linguistique et de réfuter les arguments des structuralistes et des béhavioristes. De plus, sa théorie générative et transformative a pu évoluer et persister malgré les critiques rencontrées.

Chomsky adheres to the scientific principle by formulating hypotheses and subsequently testing them against available data to either confirm or refute them. He derived this principle from exact sciences, drawing influence from mathematics, physics, biological sciences, philosophy, and logical reasoning. This departure from mere observation and description of language towards analysis is driven by his exploration of the internal mental structures underlying human language within the brains of ideal interlocutors.

Chomsky views the scientific hypothesis as a cornerstone of his approach, allowing him to scrutinize various language structure issues and rebut the arguments of structuralists and behaviorists. Additionally, his generative and transformative theory has been able to evolve and persist despite encountering criticism.

مقدمة

استطاع العالم اللساني الأمريكي نوام تشومسكي(Noam Chomsky) أن يخطو باللسانيات نحو التطوّر والتقدّم، معتمدا على منهج علميّ ناجع في دراسة اللّغة البشريّة مستفيدا من العلوم المعرفيّة المختلفة المعاصرة وحتّى أفكار القدماء خاصّة الفلاسفة والمناطقة، وعلماء النّفس...، مفنّدا للأفكار ومناهج اللسانييّن الذين سبقوه، حيث كان يرى أنّها قاصرة عن تفسير الكثير من القضايا التي تتعلّق باللّغة؛ وهذا ليس غريبا لأنّه تكوّن علميّا وريّاضيّا ولسانيّا فاستعان بالوسائل، والآليات والمناهج العلميّة، والاستدلالات الريّاضية للوصول إلى نتائج أكثر دقّة في تحليل اللغة البشريّة، وفي تفسير الكفاء اللّغويّة، وعمل البنيات الذهنيّة في ذهن/ دماغ المتكلّم المستمع المثالي؛ فهو لم يكتف بالوصف الذي اعتمده اللساني السويسري (فرديناند دوسوسير)، وتبعه في ذلك البنويون؛ الذين يعتبرون (اللّغة بنية)، وتقوم دراسة اللّغة عندهم على وصف مكوّنات هذه البنية معزولة عن المتكلّم والمتلقّي دون البحث في كيفيّة انتاجها في ذهن المتكلّم، أو كيفيّة فهمها عند المتلقّي، يعني الاكتفاء بالوصف والوصف فقط، ورفض رفضا قاطعا التفسير السلوكي الذي اعتمده بعض اللسانيين في أمريكا وأهمهم بلومفيلد؛ حيث تبنّى المبادئ السلوكيّة التي تفسر اللّغة بأنّها سلوك ظاهر كأيّ سلوك آخر يقوم على (المثير)، و(الاستجابة)، متأثّرا بعلماء النّظريّة السّلوكيّة أمثال (سكينر)، و(واطسون)، ورغم أنّه تأثّر بمبدأ بلومفيلد في تحليل اللّغة في البداية وهو المبدأ التّوزيعي، لكن اختار لنفسه طريقة أخرى مشابهة هي طريقة (التشجير)، لكن تشومسكي كانت نظرته للّغة البشريّة مختلفة تماما، وطموحه في فهم اللّغة أكبر، كما أنّه يستفيد كثيرا من الانتقادات التي يتعرّض لها، ويعيد النّظر في أفكاره، وما ميّز وجهة نظره أكثر هو عدم الاكتفاء بما هو ظاهر من اللّغة بل حاول التنبّؤ وتفسير ما هو باطني؛ أي ما يحدث في الذهن البشري، فتبنّى المنهج التّفسيري، مستفيدا من الدّراسات السّابقة والنّظريّات العلميّة والريّاضيّة والفلسفيّة، وهذه العقليّة العلميّة مكّنته من تطوير نظريّته التّوليديّة التّحويليّة، واستمرارها حتى الآن كنظريّة لسانيّة علميّة عالميّة لها جذورها، ومبادئها، ومنهجها، أسهمت في تفسير القدرات اللّغويّة الكامنة في أذهان/أدمغة البشر، التي تمكّنهم من إنتاج وفهم مالا نهاية من الجمل وحتّى تلك الجمل التي لم يسمعوها من قبل، وباعتبارها خاصيّة بشريّة. وبما أنّ اللّغة ملكة ذهنيّة كامنة في ذهن الإنسان، فلا يمكن وصفها بل تحتاج إلى تفسيرها تفسيرا علميّا، ولا يمكن إخضاعها للملاحظة والتّجربة، فقد لجأ تشومسكي إلى أهم آليّة استدلاليّة منهجيّة علميّة تتمثّل في الفرضّية العلميّة (الافتراض العلمي)؛ فكيف تبنّى تشومسكي مبدأ الفرضيّة العلميّة في نظريّته اللّسانيّة (التوّليديّة التّحويليّة) لتفسير القضايا اللّغويّة التي أثارت اهتمامه؟

وبأسلوب آخر أكثر تفصيلا:

  • ما هي منطلقات تشومسكي العلميّة، والفلسفيّة، واللّسانيّة في تبنيّ مبدأ الفرضيّة في نظريّته اللّسانيّة؟

  • ماهي أهم الفرضيّات التي طرحها؟

  • ماهي خصائص منهجه الافتراضي؟ وما تعرّض له من نقد علميّ؟

  • وسنناقش هذه الإشكاليات وفق الخطّة التّاليّة.

1. مفهوم الفرضية

1.1. لغة

) مختار عمر. 2008م) فرض، يفرض، فرضا، فرض الأمر/ فرض عليه الأمر: أوجبه وألزمه، أمر به بالقوّة.

  • فرض شروطه: أملاها، وفرض جدلا: سلّم بصحّة الشّيء في غيّاب البرهان على ما هو عكس ذلك، فرض الأمر: قدّره، تصوّره، استنبطه، فرض أنّ النتيجة ستكون حسنة، فرض له شيئا: خصّه به، فرُض الحيوان: كبر، وأسن. افترض، يفترض، افتراضا.

  • افترض أمرا1: اعتبره قائما أو مسلّما به، أخذ به في البرهنة على قضّية أو حلّ مسألة، افتراض: قضيّة مسلّمة أو موضوعة للاستدلال بها على غيرها (تبدأ المعرفة العلميّة بالافتراض)، أن يضع الباحث فرضا ليصل به إلى حلّ مسألة معيّنة، وهي مقولة تُقبل على علّتها دون إثبات (ص1692(

2.1. مفهوم الفرضية بوصفها مصطلحا علميّا

كثير من العلماء والباحثين وضعوا للفرضية تعريفات اصطلاحية فيها ما اتفق وما اختلف. نذكر منها:

  • ما وضعه الدكتور (قاسم، محمود. 1953)؛ حيث يرى أنّ كلمة الفرض تدلّ على المبادئ الأولية التي يسلم العقل بصحتها، ولا يستطيع البرهنة عليها بطريقة مباشرة لشدّة عمومها (ص114)، ويورد الدكتور (حامد عيسى، محمد الأنور. 1996) الفرض بمعنى التكهّن أو التنبّؤ أو التخمين برأي ما أو فكرة ما أو تفسير ما، يرى الباحث أنّه هو السبب في وجود الظاهرة؛ فهو تفسير مؤقت يشكل كل نواحي الحياة العلمية والعملية، ويقوم به كل ذي عقل (ص 66)، وجاء في كتاب فلسفة العلم للدكتور (قنصوه، صلاح. 1981): «الفرض العلمي اختيار لإحدى الطرق الممكنة التي تنتظم بها العلاقات بين الوقائع العلمية لتترتب، وتنسق في قانون أو نظرية» (ص190).

  • وفي معجم الرّيّاضيّات (مجمع اللّغة العربيّة. 2001): هي عبارة يفترض صحّتها كأساس لبرهنة عبارة أخرى، أو عبارة تعتبر صحّتها محتملة لأنّ ما ينتج عنها صحيح طبقا لمبادئ عامّة معلومة (ص 63).

من التعاريف السابقة نجد اختلافا بينها؛ ففي تعريف الدكتور قاسم محمود ينطبق مفهوم الفرضية على المسلمات التي يسلم بها الباحث أو العالم وينطلق منها لإثبات قضية ما مثل المسلمات الرياضية كمسلّمة أنّ المستقيم مجموعة من النّقاط غير منتهية على استقامة واحدة، وهذا ينطبق على الفرضيات الرياضية. وأمّا مفهوم الفرض عند الدكتور حامد عيسى محمد الأنور فهو التفسير الأوّلي لظاهرة ملاحظة لا يمكن تعليلها مباشرة، وهو افتراض مؤقت يمكن إثباته أو تفنيده وهذا ما ينطبق على الفرضيات العلمية في العلوم الطبيعية. وأمّا مفهوم الفرضية عند الدّكتور قنصوه صلاح فهي اختيار لطريقة ما من طرق متعددة ممكنة تمكّن من تنظيم العلاقات القائمة بين الظواهر والأحداث العلميّة المختلفة من أجل الوصول إلى قانون عام أو بناء نظرية علمية. مثل ربط العلاقة بين ثقل الأشياء، والجاذبية لقياس سرعة سقوطها.

  • وفي موسوعة (لالاند. 2001) الفلسفية ورد تعريف الفرضية بثلاثة مفاهيم مختلفة تضم المفاهيم السابقة، وهي:

  1. في الرياضيات: ما يؤخذ باعتباره معطيات مسألة، أو منطلقات يجري الانطلاق منها للبرهان على نظّار théorémé، أو مبرهنة. مثلا: الضلع [أب] مساو للضلع [أجـ] فرضيّا.

  2. قضيّة مطروحة بصرف النّظر عن كونها صحيحة أو فاسدة، بل بوصفها مبدأ يمكن أن يستخلص منه مجموع معين من القضايا أو المقترحات.

  3. تكهّن ظنّي: لكنّه معقول يسبّق به الخيال على المعرفة ويكون متّجها نحو التّحقّق من أمره لاحقا سواء بالمشاهدة المباشرة، أو باتفاق جميع لوازمه مع المشاهدة (ص575).

3.1. مفهوم الفرضية في اللسانيات 

يورد الدكتور (المسدي، عبد السلام) في قاموسه اللساني (قاموس اللسانيات) مصطلح فرضية، ومقابلها في اللغة الفرنسية دون تعريف: فرضية: hypothése، افتراضي: hypothétique (ص 144).

وكذلك الدكتور (الفاسي، عبد القادر، 2009) ينحو هذا المنحى في سرده للمصطلحات اللسانية، وما يقابلها في اللغتين الفرنسية والانجليزية، دون تعريفها: فرضيةHypothesis hypothése، افتراضي Hypothetical hypothétique، افتراضي استنباطيHypothetico-deductive hypothético-déductif (ص135).

وجاء في (المعجم الموحد لمصطلحات اللسانيات) تعريف موجز للفرضية مع ذكر مقابلها باللغتين الفرنسية، والانجليزية: فرضية Hypothesis، hypothése، وهي: «قضية لم تثبت بعد، ومعطى ينطلق منه للاستدلال المنطقي على صحّة وخطأ مسألة معيّنة » (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. 2002: 68).

وفي قاموس اللسانيات الفرنسي عرّف الافتراض بـ: تقديم اقتراح مشروط. (Dubois et outheres. 2002 : p237)

2. تحليل مفهوم الفرضية في البحث

1.2. دراسة الفرضيات في البحث 

1.1.2. أهمية الفرضيات 

قد تتشابه التعاريف التي وضعت للفرضيّة العلميّة وقد تختلف، لكن الملاحظ هنا اتفاق شبه كلي على أهميّة الفرضيّة بوصفها أساسا علميّا في المناهج العلميّة المختلفة؛ (قنصوه. 1981)؛ فهي:

  • تعدّ أبرز صور الإبداع في العلم، وفيها تتحقق شروط الإبداع؛ فهي تكشف عن التماثل في المختلف، والوحدة في المتنوّع عندما يعمد الباحث إلى ربط نثار الوقائع في خط متصل.

  • وهي أكثر صور التعبير عن المشكلة العلمية خصوبة وانتاجا؛ فبيان المشكلة وتقريرها بوصفها فرضا يقلل من حجم عرضها ويختزله إلى عناصرها الجوهرية في نطاق إطار موجز، كما أنه يقدّم في الآن نفسه حلا مقترحا للمشكلة يختار من بين عدد محتمل من الحلول.

  • ويمكن أن تعمل بوصفها محكمات، ومعايير لتقويم الأدوات والأساليب التجريبية؛ لأنّها هي التي تحدّد ملاءمتها وكفايتها في حل المشكلات.

  • ومن شأنها أن تنظم المعارف حول موضوع البحث؛ لأنّها هي التي تعيّن مناطق الأهميّة النّسبيّة التي ينبغي أن تبرز في الجوانب المختلفة لمشكلة البحث، وهذا يمكّن من أن يساهم في تحديد الوجهة المؤقتة التي يلزم أن يتخذها أي جهد منهجي في البحث في اتجاه الحل الذي يختاره. (ص191 192).

2.1.2. أنواع الفرضيات

يصنّف (بوانكاريه. 2002) الفرضيات إلى ثلاثة أنواع:

  • فرضيات أوّلية: طبيعيّة جدّا لا مناصّ لنا منها، وهي آخر ما يجب التخلّي عنه من الفرضيّات.

  • فرضيّات محايدة: توصل إلى النتائج نفسها باستخدام العكس تماما. فمهما كانت النتائج؛ فهي لا تثبت أنّنا أصبنا أو أخطأنا في النتيجة الأولى، مثلما لا تثبت أنّنا أصبنا أو أخطأنا في النتيجة المعاكسة؛ فليس ثمة ما يدعو إلى إبطالها.

  • فرضيّات تشكّل التّعميمات الحقيقيّة: وهيّ التي تؤكّدها التّجربة، أو تفنّدها، وهي خصبة سواء صدقت أو كذبت (ص228).

  • وهناك تقسيم آخر ( قاسم. 1953): الفروض العمليّة، والفروض الفلسفية، والفروض العلميّة.

  • الفروض العمليّة: هي الفروض التي يستعان بها لتفسير الظّواهر المشاهدة أو مختلف الحوادث التي تعترض الإنسان حتّى يستطيع التكيّف بالبيئة التي يعيش فيها، أو لمجرّد المعرفة، مثل وضع فروض لأسباب الإخفاق في عمل ما.

  • الفروض الفلسفيّة: تتمثل في الفروض التي توضع لتفسير الظواهر ببعض الآراء العامة، سواء أكانت هذه الآراء ساذجة، أو تنطوي على بعض العمق في التفكير

  • الفروض العلميّة: هي تفسير مبدئي لظواهر الطبيعة، يستنبط منها النتائج التي يتم فحصها دائما بالتجربة والملاحظة لرؤية مدى مطابقتها للواقع، وهكذا ينتقل العالم من الحقائق الجزئية إلى حقائق أكثر عموما، ولكنّها ليست حقائق مطلقة (ص139، 140).

3.1.2. شروط الفرضيات

الفرضيّة مبدأ علميّ أساسي في البحوث العلميّة، وللوصول إلى نتائج مرضيّة علميّا ودقيقة لابدّ أن تتوفّر على شروط. نذكر منها (قاسم. 1953):

  • يجب أن تعتمد الفروض العلميّة على الملاحظة والتّجربة؛ لأنّ الحقائق الخارجيّة التي تقع عليها حواسنا والتي يمكن أن نجري عليها تجاربنا هي المعيار الواقعي الذي يحول دون الشطط في الحدس، ودون التّعسّف في تكوين الأفكار السّابقة التي يراد بها تفسير الظّواهر.

  • يجب أن يكون الفرض خاليا من التّناقض.

  • يجب ألّا يتعارض الفرض مع الحقائق التي قررها العلم بطريقة لا تقبل الشّك.

  • يجب أن يحدّد الفرض على هيئة قضيّة واضحة يمكن التّحقّق من صدقها بالملاحظة أو التّجربة.

  • يجب أن تكون مقتصدة؛ فعلى الباحث أن يقتصد في الفروض التي يريد بها تفسير إحدى المسائل الغامضة؛ لأنّ كثرة الفروض تؤدي إلى تشتت الأفكار، والخيرة والتردد في اختيار أحدها (ص142، 143).

2.2. مبدأ الفرضية عند تشومسكي

1.2.2. منطلقات تشومسكي في تبنّي مبدأ الفرضيّة

العقلانيّة: وتتمثّل في فلسفة ديكارت (René Descartes)، وآراء اللغوي ويليام فون هامبولت(Wilhem von Humbolde )؛ فلقد تبنّى تشومسكي العقلانيّة بوصفها أساس التفكير اللساني الجديد انطلاقا من طبيعة اللّغة الإنسانيّة ذاتها وواقعها الذهني والتّكويني بربطها بالجوانب المتعلّقة إجمالا بالقدرة المعرفيّة والعقليّة عند الكائن البشري. ومهما قيل عن الإطار المعرفي والإيديولوجي الذي أفرز عقلانيّة تشومسكي، فمن المؤكد أنّ العقلانيّة اللسانيّة تأخذ منطلقها من قضيّة علاقة اللّغة بالفكر بكلّ ما تحتويه هذه العلاقة الشائكة من إشكالات، مثل انفراد الكائن البشري باللّغة، وتميّز اللّغة بالإبداع عند المتكلّم وآليات اكتسابها بشكل كليّ وما إلى ذلك من الإشكالات التي لم يسبق طرحها في اللسانيّات بهذه الشّموليّة والعمق قبل ظهور النّحو التوليدي (غلفان. 2010: 205)؛ فالتيّار العقلاني يرى أنّ العقل البشري هو عقل فطري وقبلي؛ أي أنّه يمتلك بالفطرة أفكارا ومعارفا سابقة عن الإحساس والتجربة وفي حقل الدراسات اللّغويّة يرى تشومسكي أنّ اللّغة تشكّل جزءا لا يتجزّأ من هذه المعارف الفطريّة التي لا مجال لغض الطّرف عنها أثناء الدّراسة والتّحليل اللغويين (بن التواتي. ديسمبر2014: 93)، وممّا دفع تشومسكي إلى تبنّي مبدأ الفرضية في منهجه التفسيري لبناء نظريته التوليديّة التّحويليّة طبيعة اللّغة المعقّدة، فلا يمكن لعمليّة تصنيفيّة أن تحدّها؛ وبالتّالي فإنّ كل استنتاج في هذا المجال سيكون ناقصا إن لم يكن خاطئا، كما أنّ الدراسات اللغوية التقليديّة، واللّسانيّات البنويّة قد حققّتا تراكما في المعلومات يسمح له بوضع فرضيات أو نظريات تفسّر وتشرح البنى اللّغويّة؛ فهو لم يكتف بوصف اللغة المحصورة في المدوّنة(corpus)، وإنّما كان طموحه العلمي أكبر من ذلك وهو تفسير الظاهرة اللغوية عند المتكلم/المستمع المثالي وهو افتراض في حدّ ذاته؛ أي افتراض إنسان ينتج، ويفهم عددا غير محدود من الجمل انطلاقا من قواعد محدودة.

ويرى تشومسكي أن معرفة اللّغة فرديّة وداخليّة في الذهن/ الدّماغ البشري، فوجّه الدّراسة الجقيقيّة للّغة اهتمامها إلى هذه البنية الذهنيّة، ويرى أنّ مشكلة الذّهن الجسد لا يمكن صيّاغتها لا لأنّا لا نفهم الذهن إلّا فهما محدودا جدّا، كما يفترض عموما، بل لأنّنا لا نملك معايير لتحديد ما يكون جسدا، وفي غيّاب أيّة فكرة متماسكة للجسد لا تعود هناك مكانة تصوريّة خاصّة لمشكلة الذهن الجسد ، ويعني هذا أنّه ليس هناك مشكلة ميتافيزيقيّة خاصّة تتّصل بمحاولات التّعامل بطرق علميّة طبيعيّة مع الظّواهر الذّهنيّة (كمعرفة اللّغة)، أكثر ممّا يكون هناك مشكلات غيبيّة عند الكيميائيين حين يعرفون ما يكون كيميائيّا.(2005: 63، 64).

رفض السلوكيّة التّجريبيّة: التي تنظر إلى اللّغة على أنّها سلوك يتحدّد بمثير واستجابة، فاللسانيات التوليديّة التّحويليّة ترفض هذا الموقف، الذي يساوي السّلوك الإنساني بالسّلوك الحيواني، ويعمم نتائجه انطلاقا من تجارب على الحيوانات، أو اعتباره آلة تخضع للمثيرات والاستجابات (غلفان. 2010: 206). كما أنّها تشبّه المهارة اللّغويّة بأيّة مهارة أخرى تتعلّم بالمران والملاحظة، وعجزت عن تفسير الكثير من القضايا البشريّة ككيفيّة تعبير الإنسان عن مشاعر الحبّ والكره والغضب...، وقدرة الطّفل بعد مرور سنوات على تركيب جمل صحيحة ولفظها بعد أن كان لا يسمع من المحيط إلّا جملا محدودة ومنحرفة أحيانا. وأهم ما رفضه تشومسكي رفضا قاطعا من أفكار السّلوكيّة هو إهمالها لدور العقل والشّعور في الحدث اللغوي وتشكيله، الذي أصبح أساسيّا عند التوليديّن فهم لم يكتفوا بوصف الظّاهرة بل تجاوزوا ذلك إلى تفسير حدوثها في الذهن/ الدماغ البشري، وردت الاعتبار للكائن البشري بمقوماته الفكرية والإراديّة الخاصّة به بالتّأكيد على دور العقل والإرادة والاستعداد الأولي (الفطرة)؛ فتشومسكي يرى أنّ الظّواهر اللّغويّة، وما يقوم به العقل من مجهود دقيق، فوصف الظّواهر اللّغويّة والنّشاط العقلي بأعلى درجات الدقّة الممكنة وحاول تشييد بناء نظري تجريدي يفسّر تلك الظّواهر ويكشف عن مبادئ تنظيمها وعملها دون اللجوء في الوقت الحاضر إلى ربط التّركيب والعمليّات العقليّة المفترضة بأيّ ميكانيكيّة فسيولوجيّة أو تفسير الوظيفة العقليّة من خلال أسباب فيزيائيّة (بن التواتي. ديسمبر2014: 8990)

المنهج الاستنباطي: تبنّى النّحو التّوليدي المنهج الفرضي- الاستنباطي؛ أي ذلك التصوّر العلمي الذي يرى أنّ تطوّر العلوم مرهون بوضع فرضيات كليّة وشاملة، ثمّ التحقّق منها على ضوء المعطيات الواقعيّة؛ فالهدف من كلّ نشاط علمي هو وضع فرضيات شموليّة تتجاوز حدود معاينة الوصف المألوف للظّواهر المدروسة بغية الوصول إلى تفسير كليّ ومقبول(غلفان: 210)، والمنهج الاستنباطي الافتراضي هو أيضا ذلك التصوّر المنهجي الذي يعتمد النسق المنطقي للمعرفة في العلوم الطّبيعيّة، ويقوم على تطبيق النّظريّة التي تعتمد البديهيّات المستخدمة في منهج البحث الريّاضي، كما أنّ السّبيل الوحيد لمعرفة بعض الظواهر، يستوجب تحليل بنيتها الداخليّة، وآليات اشتغالها؛ إذ يرى تشومسكي(2017) أنّ « من يحاول أن يبعث الموضوع بجديّة فمن الأجدى إظهار ما هو مفترض ضمنيّا » (ص25)؛ فهو يؤكّد على أنّ من يحاول إثارة أي قضيّة علميّة وخاصّة ما تعلّق باللّغة البشريّة أن يضع فرضيّات علميّة؛ فكل نظريّة عنده (1987) « تعتمد عددا محدودا من الملاحظات، وتسعى إلى تفسير الظّواهر التي يتمّ ملاحظتها والتنبّؤ بأخرى عن طريق قوانين عامّة في صيغة مفاهيم فرضيّة مثلما هو الحال بالنّسبة إلى الالكترون والكتلة »(ص59).

  • الأسلوب الغاليلي: تأثّر تشومسكي بالعلوم الصّرفة، فحاول أن يستفيد في دراسته للظاهرة اللغويّة من الدراسات الفيزيائية والرياضيّة. لقوله (2017): «معظم الرياضيات الكلاسيكية على سبيل المثال حتى القرن التاسع عشر كانت مبنية على ما عرف بالافتراضات المتناقضة لم يفهموا بشكل كاف لكي يحلّوا التناقضات. لكنّهم استمرّوا في تبنّي تلك الافتراضات فقط لأنّها قادت إلى العديد من الاكتشافات والأفكار والتبصّرات الجديدة، إلخ. وينطبق الأمر نفسه على الفيزياء والكيمياء. فمع كون هذه الأسئلة ملائمة من حيث المبدأ، عادة ما تكون سابقة لأوانها» (ص42).

ويربط تشومسكي بين ما يقوم به في حقل اللسانيّات وما يقوم به غيره في العلوم الفيزيائيّة؛ فنجاح الفيزياء يرجع بالأساس إلى الرغبة في حصر الاهتمام بالأحداث التي تبدو حاسمة في لحظات خاصّة من عمليّة الفهم، ولربّما بعد ذلك، البحث في الأحداث الأكثر غرابة التي تكون حاسمة بالنّسبة إلى النّظريّة (غلفان. 2010: 212).

إنّ الأسلوب الغاليلي يمثّل تحوّل اهتمام العالم من العناية بتغطيّة المواد والمعطيات إلى العناية بعمق التفسير وإفراز مفهوم دال للغة يصبح موضوع بحثّ عقلاني ينمى على أساس تجريدي. فالنّجاح الكبير الذي حقّقته العلوم الطّبيعيّة الحديثة يرجع إلى متابعة البحث عن المبادئ التفسيريّة التي تنفذ إلى عمق الظّواهر على الأقل عازفة عن تناول كلّ الظّواهر(غلفان.2010: 213)، وفي هذا الأمر يقول روبرت ليز في مراجعته لكتاب البنى التركيبية لتشومسكي: « إنّ كتاب تشومسكي (البنى التركيبيّة ) أوّل محاول جادّة يقوم بها لسانيّ لبناء نظريّة شاملة عن اللّغة في إطار التّقاليد المعروفة لبناء النظريّات العلميّة، وهي النّظريّة التي يمكن أن تفهم بالمعنى نفسه الذي تفهم به أيّ نظريّة كيميائيّة أو أحيائيّة في تلك الحقول العلميّة ».(تشومسكي. 2005: 13). وبما أنّ طموح اللسانيين أن تكون اللسانيّات في مصفّ العلوم البحتة، فإنّ تبنّي مبدأ الافتراض أصبح ضروريّا لذلك، وهذا ما يؤكده (بالماريني Palmarini ) في قوله: « بما أنّ اللّسانيّات يمكن أن تدرس كموضوع طبيعي، ليس هناك ما يمنع أن تشاطر مساراتها التطوّريّة ومزاعمها وافتراضاتها التّفسيريّة مسار العلوم الطّبيعيّة » (غلفان. 2010: 201)؛ فالقيمة المضمونيّة للعلوم حسب (توماس كون Th.Kuhn) تتشكّل من مجموعة من الفرضيّات النّظريّة ومن بعض المبادئ الميتافيزيقيّة العامّة، ومن آليّات تجريبيّة تمنحه إمكانيّة تجريب تلك الفرضيّات على ظواهر متنوّعة (غلفان. 2010: 201)، ولهذا نجد تشومسكي في عدّة مناسبات وفي مؤلّفاته المختلفة يدافع عن مبدأ الفرضية بوصفه مبدأ علميّا يجب أن تستعين به اللسانيات في منهجها التفسيري، من ذلك قوله (2017):

«معظم الرياضيات الكلاسيكية على سبيل المثال حتى القرن التاسع عشر كانت مبنية على ما عرف بالافتراضات المتناقضة لم يفهموا بشكل كاف لكي يحلّوا التناقضات. لكنّهم استمرّوا في تبنّي تلك الافتراضات فقط لأنّها قادت إلى العديد من الاكتشافات والأفكار والتبصّرات الجديدة، إلخ. وينطبق الأمر نفسه على الفيزياء والكيمياء. فمع كون هذه الأسئلة ملائمة من حيث المبدأ، عادة ما تكون سابقة لأوانها» (ص42)

وهذا ما جعل أنصار تشومسكي يشدّدون في برنامجهم التوليدي على دمج المكون الفرضي، والمكون النّمذجي في هندسته النّظريّة؛ فالنّسق الافتراضي يسمح بصياغة فرضيّات تخصّ جهاز ملكة اكتساب اللغة، أمّا النّمذجة فتمثّل الأليات الصّوريّة والمنطقيّة لبناء الأنحاء الصّالحة لتمثيل تلك الخصائص.

وقد وضع تشومسكي الصّورة النّهائيّة الّتي تنمو بها المعرفة حسب الأسلوب الجاليلي وفق الخطوات التاليّة (العمري. 2012):

  • تبنّي النّماذج عن طريق التّخمين والافتراض.

  • تختبر هذه النّماذج عن طريق البحث عمّا يمكن أن يفنّدها.

  • يتمّ التّخلّي عن هذه النّماذج إمّا كليّا، أو جزئيّا، وذلك بالتّعديل والتّحوير للحصول على نماذج جديدة ومتطوّرة (ص275).

فهذا المنهج الذي اتّبعه تشومسكي في ممارسته اللسانيّة يجعل الفرضية عنصرا أساسيا فيه، والسّمة المميّزة لهذه الممارسة اللسانيّة، وعلى هذا الأساس عرفت النّظرية التّوليديّة عدّة تطوّرات وطرحت فيها ثلاثة نماذج لتحليل اللغة؛ فكلّما طرح نموذجا وقام بتطبيقه يكتشف قصورا فيه، فيتدارك القصور بنموذج آخر، وهكذا. ويوضّح هذا في كتابه (البنى التركيبيّة):

«نحن ناقشنا نموذجين لبنية اللغة نموذجا نظريّا للاتّصال يقوم على فكرة اللّغة مثل عمليّة ماركوف ((Markov ومطابقة في معناه الحد الأدنى للنّظريّة اللّغويّة، ونموذج بنية العبارة الذي يعتمد على التحليل إلى المكوّنات المباشرة، وقد وجدنا أن النّموذج الأوّل غير صالح لأغراض نظام القواعد، وأنّ الثّاني أكثر قدرة من الأوّل ولا يعاني من عيوب النّموذج الأوّل . ممّا لا شكّ فيه أنّ ثمّة لغات (بالمفهوم العام الذي استخدمناه للّغة) لا يمكن أن نصفها باستخدام بنية العبارة ... وعلى كلّ حال فثمّة على ما اعتقد أسباب أخرى لرفض بنية العبارة لأنّها غير صالحة لغرض الوصف اللّغوي» (1987: 51)؛

فالنّموذجان الأوّل والثّاني حسبه يكشفان عن بعض الحقائق للبنية اللّغويّة وعن عدد الفجوات في النّظريّة اللّغويّة، ويعطي مثالا على ذلك وهو عدم قدرة النّظريّة على تفسير علاقات معيّنة بين الجمل مثل العلاقة بين المبني للمعلوم والمبني للمجهول، ولهذا اقترح نموذجا ثالثا يمكّنه من تفسير هذه العلاقات بصورة طبيعيّة هو النّموذج التّحويلي (تشومسكي. 1987: 11)، وهذا ما يفسّر التطوّر الملحوظ الذي عرفته النظريّة التوليديّة التّحويليّة، وثبّت أسسها كنظريّة لسانيّة مازالت تدلي بدلوها في المجال اللساني، بل صنعت لنفسها مكانة بين النّظريّات مازالت مهيمنة حتّى الآن.

2.2.2. الفرضيات الكبرى عند تشومسكي

تعددت الفرضيات اللسانية عند تشومسكي لتفسير الكثير من القضايا اللغوية التي أثارها. منها ما تجاوزها، ومنها ما اعتبرها مسلمات، ومنها ما طوّرها وتعمّق فيها أكثر مستفيدا من النظريات العلمية الحديثة. فمن الفرضيات التي تجاوزها وتخلى عنها بعض الفرضيات المتعلقة بالتحويلات الأحاديّة والتّحويلات المعمّمة، ومما اعتبرها مسلمات اللغة ملكة فطرية تخص البشر، وتعمّق أكثر في البنيات الذهنّية للغّة، ومفهومي البنية العميقة والبنية السطحيّة، والدّلالة وغيرها.

ويذهب عدد من الباحثين والمتتبّعين لتطوّر النظرية التوليدية التحويلية منهم (كريستيان نيك C. Nique1978) إلى أنّه يمكن تقسيم الفرضيّات التشومسكيّة إلى ثلاث فرضيّات كبرى:

  • فرضية في المستوى الجملي L’hypothèse d’un niveau phrastique فرضية في الارتباط البنوي L’hypothèse d’une dépendance structurale

  • فرضية في البنية المجرّدة L’hypothèse d’une structure abstraite ((Nique.1978 p11

حيث أنّ مضمون الفرضيّة الأولى ينصّ على أنّ اللّغة تتكوّن من جمل. والجمل تتكوّن من مجموعة اسمية ومجموعة فعلية (S = SN+SV) (p12)، أمّا الفرضيّة الثّانيّة؛ فإنّها تقول بإمكانيّة دراسة اللّسان على أساس أنّه نسق من البنى في مختلف المستويات، هذا فهي تحدّد مهمّة البحث اللّساني سوى في البحث عن بنية اللّغة وصياغتها صوريّا في إطار قواعد عامّة، ومبدأ الارتباط البنوي أنّ الجملة ليست تسلسلا اعتباطيا من المفردات أو المورفيمات يتمّ وضعها الواحدة تلو الأخرى، بل هي بناء تركيبي خاضع لعلاقة بنيوية مضبوطة ومحدّد) غلفان. 2010: 222223(. أمّا فرضيّة البنية المجرّدة فإنّها تعدّ من أهم الفرضيّات التي جاء بها النّحو التّوليدي وتميّز بها عن الأنحاء البنيوية والتقليديّة وتتعلّق هذه الفرضيّة بإشكالية اختلاف البنى الظاهرة السطحية مثل المبني للمعلوم والمبني للمجهول رغم وجود علاقة تربطهما. هنا افترض تشومسكي البنية العميقة أو البنية المجرّدة أي كثير من الجمل تختلف في البنى السطحية يفترض لها التطابق في البنية العميقة (غلفان. 2010: 224).

وبملاحظة هذه الفرضيات نجدها تركز على تفسير وتحليل الجمل التي ينتجها ويفهمها المتكلّم المستمع المثالي. لكن هناك فرضيات تتعلق بالجانب الذهني للغة الذي اهتم به أكثر تشومسكي في السّنوات الاخيرة من خلال مؤلفاته في تفسير الملكة اللغوية والبنيات الذهنيّة. منها:

  • وجود ملكة لغوية: يفترض (تشومسكي. 2017) «أنّ ثمّة جزء ما في الذهن الدماغ مخصص للمعرفة واستعمال اللغة. هذه وظيفة محددة للجسم، هي أشبه ما تكون بعضو لغوي، مماثل تقريبا للجهاز البصري الذي هو أيضا مخصص لمهمة معينة» (ص26)، وقد استدلّ على صحّة هذه الفرضية بأنّ ثمّة اختلافات قليلة جدّا على نطاق فصيلة الإنسان بصرف النّظر عن الحالات المرضية الجادّة على نطاق شديد الاتساع، تبدو الخصائص الأساسية للملكة اللغوية قريبة إلى حدّ التّطابق. وفي هذا يشبهها بالجهاز البصري البشري. لكن من جانب آخر هي تختلف عن الجهاز البصري البشري من حيث أنّها خاصيّة بشريّة أي تقتصر على البشر لا يبدو بأنّ شيئا مطابقا (أي: من النّاحيّة الأحيائية) أو حتى مماثلا وهي خصيصة أضعف مع أنواع قريبه أخرى. (ص 26)، وللرّد على النّقاد الذين يرفضون فطريّة اللغة وأنّها خاصيّة بشريّة يفرض فرضيّة معاكسة ويعمل على تفنيدها وبذلك يثبت صحة هذه الفرضيّة؛ فيرى « أنّ القول بأنّ اللغة ليست فطرية كالقول بأنّه لا فرق بين حفيدتي وصخرة وأرنب. بعبارة أخرى لو أخذت صخرة وأرنبا وحفيدتي ووضعتهن في مجتمع يتحدّث أناسه اللغة الإنجليزية؛ فسيتعلم كل منهن، لو اعتقدوا بأنّ هناك فرقا بين حفيدتي والأرنب والصخرة؛ فسيعتقدون بأنّ اللغة فطريّة. إذا فالأشخاص الذين يشيرون إلى أنّ هناك شيئا قابل للجدل حول افتراض أنّ اللغة فطريّة اختلطت الأمور عليهم لا أكثر » (2017: 7576) هي مناقشة طريفة ولكنّها دليل قيّم. وهذا ما يؤكّده أيضا في كتابه(المعرفة اللغوية)(1993) « نأمل على سبيل المثال فكرة أنّ هناك ملكة لغويّة؛ أي وحدة من وحدات العقل/الدماغ تنتج معرفة باللغة على أساس من التجربة الماثلة؛ إذ أنّه ليس بقضيّة خلافيّة أنّ البشر يحصلون معرفة بالإنجليزية أو اليابانيّة أو غيرهما من اللغات، على حين أنّ الصّخور أو الطّيور أو القردة لا تفعل الشّيء نفسه تحت الظروف نفسها (أو أي ظروف أخرى في الحقيقة، ولهذا فإنّ هناك خاصّة ما للعقل/الدّماغ تميّز البشر عن الصّخور والطّيور أو القردة... » (ص31)، إذا هو بهذا الافتراض يفنّد التفسير القائل بأنّ اللغة عبارة عن سلوك يتكوّن من مثير واستجابة وكأنّ المتكلّم عبارة عن آلة أو حيوان يخضع لمثيرات واستجابات، نافيّة العقل تماما.

  • ويفترض بأنّ هذه الملكة اللغويّة تشتمل على الأقل على نسق معرفي واحد، أي نسق يخزّن المعلومات. لا بدّ أيضا من وجود أنساق (أنظمة) أخرى لديها القدرة على الوصول إلى هذه المعلومات: الأنساق الأدائية (أنساق الإنجاز). على سبيل المثال، والأنساق الحسيّة الحركيّة (النطقيّة الإدراكية) التي تتحصّل على المعلومات المقدّمة لها من الملكة اللغويّة، ويفترض في الغالب أنّها مختصّة باللغة إلى حدّ ما) تشومسكي. 1993: 28)، ويرى أنّ المعلومات المخزّنة في الملكة اللغويّة تتغيّر أيضا طوال الحياة؛ فمتحدث اللغة الهندية مثلا يختلف عن متحدث الانجليزية، وهذا دليل على وجود شيء ما تغير من حالة مشتركة، لكنه يقرّ أنّ هذا السؤال صعب ولا يمكن الإجابة عنه الآن لهذا الأفضل طرحه جانبا إلى حين (ص29).

  • يفترض تشومسكي أيضا أنّ نمو الملكات الذهنية عند البشر موجّه توجيها داخليا، ويبني افتراضه هذا على ما يحدث في نمو الذراعين، أو الجناحين، وهو مجرد افتراض؛ لأنه يرى أنّ الكثير ليس لهم معرفة بـ « ما يدفع كائنا حيا إلى أن ينمو له مثلا ذراعان أو جناحان، أو أن يصل إلى فترة البلوغ عند سن معيّنة أو أهم من ذلك كلّه أن يموت عند سن معينة (تقريبا). كل هذه خصائص محددة وراثيا، وكل البحوث في علم الأحياء تأخذ هذا كمسلمة، لسبب معقول جدا: إذا نظرت في الشروط البيئية التي يتحقق فيها النمو، فإنّه ببساطة لا توجد معلومات كافيّة لتوجيه عملية محددة للغاية ومنظمة بدقة. لذا تفترض بعيدا عن التفسيرات الخرافية أنّ ذلك موجّه توجيها داخليّا» (تشومسكي. 2017: 31)، ومن هذه الحجة ينطلق لإثبات فرضيته حول نمو الملكات الذهنية.

  • هناك افتراض آخر طرحه تشومسكي للإجابة على السؤال كيف تحقق ملكة اللغة للغة ما كالإنكليزية أو الهندية ويتمثل هذا الافتراض في أنّها تفعل ذلك من خلال ما يسمّى بـ (التعابير اللغوية أي الجمل)؛ ففي رأيه كل تعبير لغوي هو عبارة عن مجموعة من الخصائص. لو عبّرنا عن ذلك بمفردات تخصصيّة نقول: إنّ اللغة تولّد مجموعة لا متناهيّة من التعابير، والافتراض المتعارف عليه هو أنّ الأنساق الأدائيّة تصنّف إلى صنفين اثنين فقط هما على وجه التقريب الصّوت والمعنى (تمثيلات معينة للصّوت، وتمثيلات معينة للمعنى).

3.2.2. خصائص الافتراض عند تشومسكي

الفرضية بوصفها مبدأ علميّا تخضع للإثبات أو النفي فهي تفسير أولي لقضية علمية ما يمكن إثباتها من خلال المعطيات الممكنة، فيحكم على صحتها حتى تظهر معطيات أخرى مناقضة تثبت العكس، فيتم تفنيدها على أساس هذه المعطيات المناقضة لصحتها، وتشومسكي في نظريته يقترح فرضيات لتفسير مختلف القضايا اللسانية التي يثيرها. ويحاول أن يثبتها، فإذا ظهر نقص أو نقيض غيّر فيها وأعطى تفسيرا آخر وفق هذه المعطيات الجديدة؛ فهو يرى بأنّ الفرضيات حتّى ولو أمكن القول:

« إنّها مألوفة وشائعة لا يعني القول إنّها يجب أن تتبنى بلا فحص نقدي، هذا أبعد ما يكون عن الصّواب؛ فعندما تفكر فيها تجدها مفاجئة من عدّة نواح، ومثيرة للاهتمام إلى درجة أنّها مقبولة على جميع الأصعدة التجريبية » ( تشومسكي. 2017: 31).

وفي هذا يدعّم تشومسكي قول أستاذه بوبر (Popper): «لكي تحقّق نظريّة جديدة كشفا أو خطوة إلى الأمام، ينبغي أن تدخل في صراع مع النّظريّة التي سبقتها؛ ومعنى هذا أنّها يجب على أبسط الفروض أن تؤدّي إلى بعض النّتائج المتعارضة. بيد أنّ هذا يعني من المنظور المنطقي، أنّها يجب أن تناقض سابقتها، يجب أن تطيح بها، وبهذا المغزى نجد التقدّم في العلم دائما ثوريّا »؛ فتشومسكي برأيه هذا يعترف بشرط علمي يتعلق بالفرضية وهو قبولها للإثبات أو التفنيد؛ فهو عندما يقترح فرضيات لا يتعصب لها، وإنّما يفتح المجال للنقد العلمي الموضوعي أمام مناصريه، أو معارضيه، وهذه الميزة هي التي ميزت النحو التوليدي، وساهمت في تطوره، واستمرار منهجه وأفكاره العلمية، وأثبتت وجود نظريّته عبر عقود زمنية، واعترف بها نظرية علمية أثارت الكثير من الحبر إمّا اعترافا أو نقدا.

ويشترط التوليديون في الفرضية أن تكون ذات قيمة تفسيرية؛ لأنّهم تجاوزوا الوصف إلى التفسير، والتفسير يحتاج إلى فرضية تفسيرية، وأن تكون دقيقة بما فيه الكفاية حتى تسمح بإثباتها أو تفنيدها، وألا تتناقض مع فرضيات النّموذج (العمري. 2012: 149).

وتشومسكي لم ينطلق من فراغ حينما وضع فرضياته اللسانية لتفسير الكثير من القضايا اللغوية وممّا يميّزه أنّه انطلق من فرضيات وضعها فلاسفة سبقوه أو عاصروه أمثال: أفلاطون، ديكارت، هامبولت، ولسانيون. أمثال: بلومفيلد، وأستاذه هاريس، وعلماء نفس. مثل سكينر، وعلماء رياضيات وفيزياء وغيرهم؛ فهناك فرضيات طوّرها مثل فرضيته اللغة فطرّيّة، وهناك فرضيّات أخرى فنّدها مثل الفرضيّة التي ترى أنّ اللغة عبارة عن سلوك يتمثّل في مثير واستجابة كما وصفتها النظرية السلوكيّة.

وهو بهذا لم يكتف بالنّقل بل أعمل العقل ولم يرض بالوصف البحت بل تجاوزه إلى التفسير العلمي المنطقي، ولم يتوقف عند حدود مجموعة لغوية في مدوّنة ولا عند لغة واحدة كلغته الانجليزيّة بل كان طموحه العلمي أوسع من ذلك، ولهذا افترض نحوا كليا عالميا مضمونه أنّ اللغات العالميّة تشترك في خصائص عامّة كالفطريّة والخاصيّة البشريّة والأنساق الذهنيّة والبنيات العمية والسّطحيّة وغيرها.

4.2.2. نقد تشومسكي في فرضياته

المنهج التفسيري الذي نهجه تشومسكي ساعده في تحقيق نتائج معمّقة في دراسة اللّغة البشريّة، وأثار كثيرا من القضايا اللّغويّة، وساهم في توجيه النّظر إليها ليس من اللّسانيّين فقط بل أصبحت حقلا علميّا ينهل منه مختلف العلماء في مختلف المجالات كعلم النّفس، والفلسفة، والمنطق، والحاسوبيّات، وعلم الأعصاب .... ومنطقيّا ككلّ علم وككلّ نظريّة تثير اهتمام العلماء فإنّ هذا الاهتمام يأخذ شكلين الانتصار لها، أو انتقادها، وتشومسكي لم يسلم من الانتقادات خاصّة في فرضيّاته فكما انتقد فرضيّات غيره ومناهجهم وطرائق استدلالهم وتحليلهم كالبنيويين والسّلوكيين...لقي انتقادات وتفنيدات لنظرياته ومن أهم الانتقادات التي تعرّض لها تشومسكي في فرضيّاته:

  • مبالغة تشومسكي في الاهتمام بالمستوى التّركيبي على حساب المستوى الدّلالي. فرغم أنّه دمجه لاحقا بعدما تعرّض للانتقادات لكن ظلّ عنصرا ثانويّا بالنّسبة إليه وناتجا عن المستوى التّركيبي كما فصل بينهما، وعزله عن السيّاق وعن الذّاكرة ومختلف المعارف التي تسهم في تحديد طبيعة اللّسان وهذا ما جعل أصحاب النّظريّات السيّاقيّة والدّلاليّة والتّداوليّة يفنّدون فرضيّته حول المعنى (العمري. 2012: 270)؛ فبعد أن أهمله تماما في البداية وركّز على توليد الجمل في المستوى التّركيبي؛ أي توليد مالا نهاية من الجمل انطلاقا من عناصر تركيبيّة محدّدة وإدخال فيما بعد قواعد التّحويل أي توليد الجمل عن طريق التّحويلات انطلاقا من الجملة النّواة بعدما تصادم مع صعوبة تفسير بعض الجمل التي لها نفس التركيب ولكن تختلف في المعنى . مثل: الجملة (كان ضربُ زيدٍ مبرحا)؛ فهي تركيب واحد ولكن تحتمل معنيين: أنّ زيدا هو الضّارب، أو أنّ زيدا مضروب. أي زيد هو من قام بالفعل، أو وقع عليه فعل الفاعل، وهذا المأزق الذي وقع فيه تشومسكي جعله يلجأ إلى فرضيّة وجود بنيتين (البنية السطحيّة، والبنية العميقة) محاولا إدخال المكوّن الدّلالي. لكن بقي اهتمامه منصبّا أكثر على الصّورنة والنّمذجة ممّا جعل اهتمامه بالدّلالة ثانويّا، وممن فند فرضيّاته حول الدّلالة انصار اتّجاه الدّلالة التّوليديّة الذين يفترضون أنّ الدّلالة هي الأساس والتّركيب ناتج عنه، وأنّ دور قواعد النّحو كلّها يقتصر على تقييد عمليّة اشتقاق المؤشّرات المركبيّة حتّى لا يتمّ توليد إلّا البنيات السليمة والمقبولة (العمري. 2012: 272)، ....

  • خطّأت العرفانيّة تشومسكي في فرضيّته المتعلّقة بمركزيّة المستوى التّركيبي في حين أنّ المستويين الصّوتي، والدّلالي تأويليّان عنده. وافترضت أنّ المستويات كلّها مركزيّة ضمن فرضيّة هندسة التّوازي ولا يمكن تمييز أحدها عن الأخرى أو الفصل بينها ويوضّح هذا الأمر أحد أشهر روّاد اللّسانيّات العرفانيّة جاكندوف (2010): « ونعود إلى ما أعتقد أنه الخطأ الذي يقع في صلب النحو التوليدي أقصد الخطأ الذي يقف وراء ابتعاد النظرية اللغوية عن العلوم العرفانية واغترابها فقد برهن تشومسكي على أن اللغة تتطلب نسقا توليديا يسمح بإنتاج ما لا حد له من الجمل المتنوعة، لكنه دافع دون دليل في كتاب المظاهر عن أن خاصية التوليدية هذه توجد في صلب المكون التركيبي للنحو بناء المركبات من الكلمات وأن الصوتيات (نظام أصوات الكلام) والدلاليات (نظام المعنى) هما مكونان تأويليّان فقط؛ أي أنّ خصائصهما التّأليفيّة لا تعدّ أصليّة، بل مشتقّة بكيفيّة صارمة من تأليفيّة التّركيب » (ص47)، فالعرفانيّة تفرض أنّ البنية اللّغويّة بمستوياتها المختلفة تعالج ضمن مستوى واحد مع المعلومات غير اللّغويّة وهو المستوى الذي أطلق عليه مستوى البنية التصوّريّة( conceptual structure)، وهي في هذا أيضا لا تفصل بين المعلومات اللّغويّة وغير اللّغويّة عكس ما فعل تشومسكي الذي أبعد تماما المعلومات غير اللّغويّة في تشكيل البنية اللّغويّة (عابي، ضبعي. 2018: 130)؛ فالمعرفة اللغوية في هذا التيار "جزء من الإدراك العقلي الذي لا يميز بين المعلومات اللغوية والمعلومات غير اللغوية، والذي يتأثر، وبقوة، بمحيط الإنسان وتجاربه اليومية المختلفة؛ فالعمليات العقلية التي تتحكم في التفكير الإنساني وفي تكوين المعرفة بشكل عام هي نفسها التي تتحكم في المعرفة اللغوية وفي تشكيل البنية اللّغويّة العامّة (عابي، ضبعي. 2018: 129)، وحسب العرفانيين كل العمليّات الذّهنيّة بما فيها اللّغويّة تتمّ على مستوى البنيّة التّصوريّة التي هي ليست جزءا من اللّغة في حدّ ذاتها إنّما هي جزء من الفكر؛ فهي المحل الذي يتمّ فيه فهم الأقوال اللّغويّة في سيّاقاتها، بما في ذلك الاعتبارات الذريعيّة، والمعرفة الموسوعيّة، وتخصّ البنية التّصوّريّة عند العرفانّيين كل المعارف التي تتمّ صناعتها في الذّهن ولها علاق بتجارب الإنسان في المواقف الحياتيّة المختلفة (عابي، ضبعي. 2018: 132)

  • يعترض السيّاقيّون والتّداوليّون على فرضيّة أنّ اللّغة أنساق مجرّدة؛ حيث يرون أنّ اللّغات الطّبيعيّة بنيات تحدّد خصائصها جزئيا على الأقل ظروف استعمالها في إطار وظيفتها الأساسيّة وظيفة التّواصل (العمري. 2012: 274)، وإذا كان تشومسكي يهتم باللّغة بمعزل عن السيّاق اللّغوي وغير اللّغوي فإنّ السيّاقيّين يدرسون اللّغة في إطار العمليّة التّواصليّة؛ أي ما يتعلّق بالمتكلّم والمتلقّي والرّسالة والإطار الزّماني والمكاني، وإذا كان تشومسكي يفترض أنّ اللّغة لها جانبان الكفاءة اللّغويّة والأداء، فإنّ التداوليين يفترضون جانبا آخر مهما جدّا للّغة وأساسيّا وهو الكفاءة التّواصليّة ((compétence communicative، وكما يفترض تشومسكي المتكلّم/ المستمع المثالي، فإنّهم يفترضون المتكلّم/ المخاطب

  • من الاعتراضات الموجّهة إلى تشومسكي تركيز دراساته اللّغويّة على الجملة، في حين معظم النّظريّات اللّسانيّة والأنحاء الحديثة والمعاصرة وسّعت نطاق دراساتها إلى الخطاب فقد تجاوزوا الحديث عن نحو الجملة (القواعد التي تحكم الجملة)، إلى نحو النّص (القواعد التي تحكم سلسلة من الجمل)، وهذا ما عيب عليه واتهم بتقصيره.

  • ومن المؤاخذات على نظريّة تشومسكي أنّ الفرضيّة الفطريّة هي مجرّد فرضيّة فلسفيّة لم تخضع لأيّ اختبار، وأنّ النّحو التّوليدي بذلك أقرب إلى البحث الميتافيزيقي منه إلى اللّسانيّات، كذلك تأكيد فهمه للغة على مقولات التّكوين الوراثي والفطرة الأصليّة والطّبيعيّة الإنسانيّة تبعد مفهوم الإبداع بطريقة ما رغم أنّه أثار هذه القضيّة ( الإبداع في اللّغة )؛ لأنّه مال إلى تفسير التّوليد تفسيرا رياضيّا يعتمد على المعادلات الريّاضيّة والإحصاءات وبهذا جعل اللّغة مجرّدة من نبضها الحي وكثافتها التّعبيريّة، وشحناتها الرّمزيّة ( حرب: 75)، فبالغ في الصّورنة والآليّة وتجاهل التّقنيّات الأسلوبيّة والأبعاد البيانيّة أو الجماليّة. لكن في الحقيقة أنّ تشومسكي جرّد اللّغة من كل الأشكال التّعبيريّة لأنّه أراد تفسير ما يحدث في الذهن/ الدّماغ بطريقة علميّة موضوعيّة تتعلّق بالمتكلّم/ المستمع المثالي ليصل إلى قواعد كليّة عامّة تحكم اللّغة البشريّة أمّا الجوانب التعبيريّة الأسلوبيّة فهي تفتح المجال للتشعّبات والتميّزات الفرديّة التي تختلف من شخص إلى آخر أي اللّغة الخاصّة؛ ففي رأيه تجريد اللّغة يوصله إلى نتائج أكثر دقّة وعموميّة.

  • يعترض علماء النّفس على اختلاف توجهاتهم على اعتماد تشومسكي على النّموذج لدراسة العلاقة بين اللّغة والأنشطة الذّهنيّة؛ ففي رأيهم غير كاف لتفسير الأنشطة المعرفيّة، وكذلك لتفسير سلوك المتكلّمين في مختلف أنشطتهم كالإدراك والتذكّر....، وتركيزه على (المتكلّم/ المستمع المثالي) خلق نموذجا إنسانيّا مثاليّا كما يتصوّره وبذلك جرّده من فاعليّته وكذا حريّته في الإبداع وتميّزه عن غيره، وكأنّه آلة تصوّر عملها، وبذلك تناسى الواقع اللّغوي المراد تفسيره، وكذلك القدرات اللّغويّة التي لا يمكن حصرها، وأحيانا لا يمكن توقّعها(حرب: 76).

  • أمّا بخصوص فرضيّة النّحو الكلّي، فيعترض هيلاري بوتنام ((Hilary Putnam على ذلك أشد الاعتراض وحجّته في ذلك أنّه حتّى لو كان بالإمكان اكتشاف تماثلات دالّة بين الألسن فإنّه يمكن تفسيرها بفرضيّات أكثر بساطة من فرضيّة النّحو الكلّي كإرجاع تلك التّماثلات إلى افتراض الأصل المشترك لتلك الألسن لا إلى وجود نحو كلّي؛ أي أنّه يمكن تفسير أنّ سبب التّماثل في اللّغات بين البشر هو أنّ لها أصل مشترك واحد ثمّ تطوّرت واختلفت وتفرّقت لعوامل مختلفة يتمّ تفسيرها، ويرى بياجيه ( J. Piaget)أن ذلك نوعا من الجنوح عن التّصوّر العلمي وابتعادا عن الحقيقة التي يزكّيها الواقع، ويسمّيه استعدادا طبيعيّا للتكيّف وقدرة على التّفاعل مع المحيط اللذين تنتج عنهما المعارف ومنها المعرفة باللّسان )العمري. 2012: 282).

  • يعترض التطوريّون البيولوجيّون على فرضيّة أنّ التفسير التّركيبي الذي يقترحه تشومسكي ليس هو التّفسير الذي يمكن اعتماده في فهم اللّغة وإنّما هناك التّفسير التطوّري حيث يفترضون أنّ اللّغة بنيات بيولوجيّة متطوّرة وينفون كونها عضوا محدّدا، وإنّ الشّبكات العصبيّة المشكّلة لهذا النّسق هي التي تشكّل كلّا محدّدا جينيّا هو الذي يحدّد الخصائص الممكنة للّغة، ويمكن تفسير سبب هذا الاعتراض هو عدم فهمهم لمنهج تشومسكي جيّدا وخلطهم بين نوعين من التطوّر أحدهما على مستوى الفرد (المتكلّم)، والآخر تطوّر على مستوى النّوع (النوع البشري). وهذا موضوع نظريّة التطوّر العامّة التي ترصد التغيّرات الكبرى التي تطرأ على النّوع وعلى خصائصه البيولوجيّة، وبينما يفترض تشومسكي أنّ تطوّر الجهاز اللّغوي يكون في السّنوات الأولى ثم ّيتوقّف لأنّ عمليّة النّمو تكون قد اكتملت. في حين أنّ التطوّريين أمثال بياجيه يرون أنّه يستمر إلى ما بعد العشرين ومنهم من يرى أنّه لا يتوقّف أبدا مثله مثل كل التطوّرات التي تعرفها بقيّة الأعضاء (العمري. 2012: 287). وهذا الاختلاف والتضارب وتفنيد فرضيات بعضهم البعض مردّه راجع إلى صعوبة ملاحظة الكثير من الظواهر اللّغويّة خاصّة ما يحدث في الدّماغ، وصعوبة إخضاعها للتجارب العلميّة، ضف إلى ذلك أنّ الدراسات العلميّة المتعلّقة بالدّماغ وعلاقته باللّغة مازالت في بداياتها، واختلاف المنهج والهدف، فمنهج اللسانيات وهدفها يختلف عن منهج علم النّفس وهدفه. وفي حين تشومسكي يركّز على اللّغة ككفاءة، فعلماء النّفس يركّزون عليها كأداء (إنجاز)، أو كسلوك إنساني....

الخاتمة

من خلال هذا البحث نخلص إلى أهميّة مبدأ الفرضيّة أو الافتراض عند تشومسكي؛ فهو تجاوز وصف اللّغة وتحليل مكوّناتها كما فعل البناويّون رغم أنّه بدأ دراسته انطلاقا من تحليل التّراكيب على نهج أستاذه هاريس ثمّ ابتدع طريقته الخاصّة وهي التّشجير. لكن تشومسكي لم يكتف بالتّحليل بل لجأ إلى التّفسير العقلي العلمي للّغة مستفيدا من أراء الفلاسفة أمثال أفلاطون، وديكارت، ... وعلماء النّفس، أمثال سكينر، بياجيه،... والنّظريّات اللّسانيّة التقليديّة والمعاصرة، ضف إلى ذلك البيئة العلميّة التي كان يعمل فيها أستاذا، وعلاقته بعلماء العلوم البحتة كالرّيّاضيات، والفيزياء، والعلوم البيولوجيّة...فبنى له صرحا فكريّا وعلميّا وفلسفيّا ولسانيّا وظّفه في دراسته للّغة البشريّة ممّا مكّن نظريّته من الاستمرار والتطوّر ومواجهة الآراء المعارضة والانتقادات الشديدة، وأهم مبدأ يقوم عليه منهجه هو مبدأ الفرضيّة الذي استقاه من المناهج العلميّة والفلسفيّة العقليّة، والبحوث المعرفيّة، وما توصّلنا إليه في بحثنا هذا حول مبدأ الفرضيّة عند تشومسكي ما يلي:

المنهج العقلي التّفسيري الذي اعتمده تشومسكي هو ما سمح له بتبنّي مبدأ الفرضيّة العلميّة، وهو مبدأ أساسي عنده ينطلق منه في بحثه اللساني، ورفضه للمنهج الوصفي، والسّلوكي التّجريبي.

  • انطلاق تشومسكي من فرضيّات وضعها فلاسفة وعلماء النّفس وريّاضيّون منهم أفلاطون، ديكارت، بياجيه، ... محاولا إثباتها، أو تفنيدها، وطرح فرضيّات جديدة كبديل لها.

  • مبدأ الفرضّية ساهم في تطوّر اللّسانيّات التّوليديّة التّحويليّة، ومحافظتها على مكانتها إلى جانب مختلف النّظريّات المتعلّقة باللّغة البشريّة. ومكّنت تشومسكي من تبوّء مكانة عالميّة في اللّسانيّات.

  • استعانة تشومسكي في تفنيد فرضيّات غيره وإثبات فرضيّاته والدّفاع عنها بمختلف العلوم المجاورة كالفلسفة وعلم النّفس والمنطق، وكذا العلوم البيولوجيّة وعلم الأعصاب والريّاضيّات والفيزياء ...

  • تعرّض تشومسكي للكثير من الانتقادات، واتّهم بالقصور في كثير من فرضيّاته جعله إمّا يدافع عنها بمختلف الوسائل الاستدلاليّة والحجج العلميّة، أو إعادة النّظر فيها. ما ساعده على تطويرها، وإثارة قضايا وفرضيّات جديدة.

  • لجوء تشومسكي إلى مبدأ الفرضّية العلميّة لأنّها مبدأ علميّ أساسيّ في مختلف العلوم، وكان يعتمد المبادئ العلميّة بهدف جعل اللّسانيّات في مصف العلوم البحتة، وهذا نظرا لتأثّره الشّديد بمبدأ التّجريد العلمي.

  • مساهمة فرضيّات تشومسكي في خلق حركة علمية واسعة في مجال اللّسانيّات وكل ماله علاقة باللّغة، فظهرت نظريّات جديدة انطلقت من أفكار تشومسكي وتوسّعت فيها مثل العرفانيّة، ونظريّة الدّلالة التّوليديّة، اللّسانيّات الحاسوبيّة، نظريّات متعلّقة باكتساب اللّغة، وتعلّمها وتعليمها، والذّكاء الاصطناعي وغيرها، كما فتحت المجال لنقاشات علميّة وفلسفيّة وحوارات وحتّى مناظرات بين العلماء المهتمّين باللّغة البشريّة....

1 ويقابلها في اللغة الفرنسية:فرضيّة: hypothèse، فرضيّ: hypothétique ( Alwan. et all. 2004. p429)وفي اللغة الانجليزيّة:فرضيّةhypothesis:، افتراضي:


أكاديميا أنترناشيونال. (2003). قاموس أكسفورد المحيط- إنجليزي عربي. بيروت، لبنان: أكاديميا أنترناشيونال للنّشر والطّباعة.

البعلبكي، روحي. (1995). المورد -قاموس عربي إنجليزي-. ط7. بيروت، لبنان: دار العلم للملايين.

بوانكاريه، هنري. (2002). العلم والفرضي. ترجمة حمادي بن جاء بالله. ط1. بيروت، لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية.

تشومسكي، نوام. (1987). البنى النحويّ. ترجمة يؤيل يوسف عزي. ط1. بغداد، العراق: دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة.

تشومسكي، نوام. (1993). المعرفة اللغوية -طبيعتها وأصولها واستخدامها-. ترجمة محمد فتيح. ط1. القاهرة، مصر: دار الفكر العربي.

تشومسكي، نوام. (2005). أفاق جديدة في دراسة اللغة والذهن. ترجمة حمزة بن قبلان المزيني. ط1. القاهرة، مصر: المجلس الأعلى للثّقافة.

تشومسكي، نوام. (2017). بنيان اللغة. ترجمة إبراهيم الكلثم. ط1. بيروت، لبنان: جداول للنشر والترجمة والتوسيع.

حامد عيسى، محمد الأنور. (1996). نظرات في المنطق الحديث ومناهج البحث. ط2. مصر: دار الطباعة الحرية الأزهر.

حرب، علي. (تاريخ غير معروف). أصنام النّظريّة وأطياف الحريّة (نقد بورديو وتشومسكي). المركز الثّقافي العربي.

جاكندوف، راي. (2010). علم الدّلالة والعرفانيّة. ترجمة بنور عبد الرزاق. تونس: دار سيناترا.

العمري، محمد محمد. (2012). الأسس الإبستمولوجية للنّظريّة اللسانيّة. ط1. عمان، الأردن: دار أسامة للنّشر والتّوزيع.

غلفان، مصطفى. وآخرون. (2010). اللسانيات التوليديّة. ط1. إربد، الأردن: عالم الكتب الحديث.

الفاسي الفهري، عبد القادر. (2009). معجم المصطلحات اللسانية -إنجليزي فرنسي عربي-. ط1. بيروت، لبنان: دار الكتاب الجديد المتحدة.

قاسم، محمود. (1953). المنطق الحديث ومناهج البحث. ط1. القاهرة، مصر: مكتبة الأنجلو المصرية.

قنصوه، صلاح. (1981). فلسفة العلم. ط. القاهرة، مصر: دار الثقافة للنشر والطباعة.

لالاند، أندريه. (2001). موسوعة لالاند الفلسفية. ترجمة خليل أحمد خليل. مج 1. ط2. بيروت، لبنان: منشورات عويدات.

مجمّع اللّغة العربيّة. (2001). معجم الرّياضيّات. ج3. ط5. القاهرة، مصر: دار الشّعب.

مختار، عمر. أحمد. (2008). معجم اللغة العربية المعاصرة. مج 1. ط1. القاهرة، مصر: عالم الكتب.

المسدّي، عبد السّلام. (تاريخ غير معروف). قاموس اللّسانيّات. الدار العربيّة للكتاب.

المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. (2002). المعجم الموحّد لمصطلحات اللسانيات -انجليزي فرنسي عربي-. ط2. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. المغرب: الدار البيضاء.

بن التواتي، عبد القادر. (ديسمبر 2014). المنطلقات التّأسيسيّة لنظريّة النّحو التّحويلي التّوليدي لتشومسكي. مجلة علوم اللّسان. جامعة عمّار ثليجي. الأغواط. ع 7.

عابي، عبد السلام.، ضبعي، النذير. (2018). من اللسانيات التوليدية إلى اللسانيات العرفانية: تحولات المباحث والمفاهيم. مجلة الللسانيات. مج 24. ع1.

Alwan, F. S. et al. (2004). Le dictionnaire Français-Arabe. 2e édition. Beyrouth, Liban : Dar Al-kotob al-ilmiyah.

Dubois, Jean et al. (2002). Dictionnaire de linguistique. Paris, France.

Nique, Christian. (1978). Grammaire générative hypothèses et argumentations. Paris, France : Librairie Armand Colin.

1 ويقابلها في اللغة الفرنسية:فرضيّة: hypothèse، فرضيّ: hypothétique ( Alwan. et all. 2004. p429)
وفي اللغة الانجليزيّة:فرضيّةhypothesis:، افتراضي: hypothetical، مفترض: hypothetically (أكاديميا أنترناشيونال للنّشر والطّباعة. 2003: 513)
افتراض: Hypothesis. supposition . assumption. proposition، افتراضي: Hypothetical suppositional(suppositive). assumed. propositional (البعلبكي. 1995: 822).

عبد العالي كلثوم Kaltoum Abelali

مخبر البحوث والدراسات الصوتيّة- جامعة أبو القاسم سعد الله الجزائر 2/ الجزائر

سالمي عبد المجيد Salmi Abdelmadjid

مخبر البحوث والدراسات الصوتيّة- جامعة أبو القاسم سعد الله الجزائر 2/ الجزائر

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article